شبان سوريون يصنعون مستقبلهم تحت النار – محمد الأسمر

تعايش الكثير من السوريين مع حالة الحرب التي تمر بها البلاد وفضلوا البقاء على هذه الأرض ومواكبة تطورات الحياة فأطلقوا مشاريعهم الصغيرة بإمكانياتٍ محدودةٍ بهدف تأمين مستلزمات السوق المحلية من جهة وتأمين فرص عمل لعدد من الشباب من جهة أخرى.

يقول زهير وهو صاحب مشغل خياطة: ” بدأت بهذا العمل منذ قرابة عامين، واعتمدت على الصدق في المعاملة لأتمكن من الاستمرار في عملي ومنافسة البضاعة القادمة من تركيا، أنا اليوم أستطيع أن أوزع إنتاجي على كامل الشمال السوري المحرر وبأسعار منافسة لأسعار الملبوسات القادمة من تركيا، وكرست جهدي لأجعل من مشغلي  مشروعاً متكاملاً من ناحيةِ الإنتاجِ والتصريفِ، وأقمت مراكز خاصة لتوزيع البضاعة التي ننتجها في أغلب المناطق المحررة”.

يضيف زهير: ” يؤمن مشروعي رغم تواضعه المعيشة للعديد من الأسر السورية، التي تحتاج فعلاً لأي مساعدة في هذه الظروف, حيث يعمل في المشغل قرابة الخمسةَ عشرَ عاملاً, وقد يزيد العدد أو ينقص بحسب ضغط العمل  وحاجة السوق”.

ولاشك أن العمل في المناطق المحررة هو مغامرة بحد ذاته، فالصعوبات تعيق أبسط الجزئيات لإتمامه، “نستورد المواد الخام من تركيا، ويتطلب ذلك جهداً كبيراً عدا عن التكلفة الكبيرة، والإغلاقِ المتكررْ للمعبرْ من قبلِ الجانبِ التركيِّ، الذي يتسبب بتوقف عملنا مؤقتاً”.

يتابع زهير: “ولعل مشكلة الكهرباء من أهم الصعوبات التي تعترض عملنا، فغياب الكهرباء يدفعنا لاستعمال المولدات الكهربائية التي من شأنها أن ترفع سعر الإنتاج، إضافة لتأخرنا بالعمل نتيجة الأعطال المتكررة التي تواجه المولدات نتيجة ضغط العمل، هذا عدا عن القصف المتكرر على المناطق المحررة الذي يتسبب بالمزيد من الخسائر عندما يكون قريباً منا، حيث يضطرنا للانتقال إلى مكان أكثر أماناً”.

أما عن سبب بقائه في الداخل ومخاطرته بحياته وبماله في ظل هذه الظروف الصعبة، فيخبرنا رائد: “أنه يفضل الموت على هذه الأرض على أن يهجرها”.

ومن ناحية أخرى حاول الكثير من السوريين الاعتماد على المشاريع الحديثة، والتي فرضها الواقع الجديد، حيث لم تكن موجودة قبل الثورة فابتكروا أساليبهم من أدوات بدائية، وساهموا بشكل كبير في إيجاد حلول توفر الكثير من المال والجهد على المدنيين في المناطق المحررة.

أبو زياد صاحب إحدى محطات تكرير الوقود يقول : “فكرت بعدة مشاريع قبل تنفيذ مشروعي هذا، ثم قررت أن أعتمد عليه على الرغم من خطورة العمل بهذا المجال، لأني لمست حاجة ملحة في السوق للمنتجات النفطية, فتوجهت إلى أحد العاملين في المجال الصناعي وطلبت منه تفصيل الصوامع والمعدات بالشكل والمقاس الذي أريده, واخترت أرضاً مناسبة لإقامة مشروعي بعيداً عن التجمعات السكانية، لإبعاد الرائحة والدخان عن المناطق المكتظة بالسكان”.

يضيف أبو زياد :”كانت العقبة الأولى أمامي تأمين النفط الخام في ظل الانقطاع المستمر للطريق باتجاه حقول النفط بسبب الأوضاع الأمنية والعمليات العسكرية, ومع تقدم الوقت قمت بإنشاء مستودع كبير تحت الأرض بهدف تخزين النفط الخام ليستمر عملنا في حال انقطع الطريق لعدة أيام”.

يضيف أبو زياد: “تعتبر كلفة المحطة المعروفة بالحراق بسيطة إذا ما قارناها بسعر النفط الخام الذي يتبدل سعره بشكل مستمر بحسب السعر العالمي من جهة وبسبب وضع الطريق من جهة أخرى, ويحتاج الحراق إلى خمس عمال كحد أقصى لتشغيله، ونقوم بتحويل النفط الخام إلى مواد بترولية “بنزين – كاز- مازوت – فحم تدفئة” ثم نقوم بتوزيع الإنتاج على مراكز البيع”.

يرى أبو زياد أن وجود مثل هذه المحطات يساهم بشكل كبير بدعم السوق بالمشتقات النفطية في ظل غلاء أسعار المحروقات التي تأتي من مناطق سيطرة النظام، كما أن الكثير من السكان يعتمدون بشكل كامل على هذه المواد بسبب توفرها الدائم وانخفاض أسعارها.

يتابع أبو زياد: “تعترضنا الكثير من الصعوبات في هذا العمل، أهمها  الخطر الناجم عن تسخين النفط لدرجات عالية بهدف الفرز، والكثير من الحراقات تعرضت للانفجار بسبب الضغط الشديد الذي يتشكل بداخلها بعد تعرضها للحرارة، إضافة لانتشار الغاز بشكل كبير أثناء تكرير النفط، والذي قد يسبب كارثة في حال قصر أحد العمال في عوامل الأمان, ناهيك عن انبعاث روائح كريهة ومضرة بشكل كبير من الحراقات ونحاول تلافي هذا الضرر عن طريق ارتداء الأقنعة الواقية طوال فترة العمل”.

في الوقت نفسه بقيت بعض المشاريع أفكاراً دون تطبيق ولم يكتب لها أن تبصر النور بسبب الصعوبات التي حالت دون تنفيذها على الرغم من سعي أصحابها وتكلفهم بالوقت والمال.

يقول المحامي “فهد الموسى” بدأت مع زوجتي الصيدلانية صفاء الموسى في دراسة مشروع لمعمل منظفات في المناطق المحررة, وكان لدي إصرار كبير على البدء بالعمل نتيجة حاجة السوق الملحّة لمثل تلك المنظفات من شامبوهات ومساحيق الغسيل والصابون.

قمت بدراسة المشروع بشكل جيد وأمنت المواد الأولية التي تعتبر النواة بمثل هذه المشاريع لكن ذلك لم يكن كافياً، فقد واجهتني عدة عقبات تكمن في تأمين مكان مناسب للمعمل في ظل الضغط السكاني الذي تعيشه المناطق المحررة, إضافة لغياب الكهرباء والتي يعتبر وجودها ضروري جداً ويخفف من كلفة الإنتاج.

ومع ذلك بقي لدي الإصرار على العمل، خصوصاً بعد أن قمنا بعدة تجارب ووصلنا لنتائجْ ممتازة تضاهي المنتجات المستوردة من الخارج وبكلفة أقل بكثير.

يضيف ” الموسى” بعد هذه المرحلة ظهرت لدينا مشكلة جديدة في تأمين إحدى المواد الأساسية لتصنيع شامبو بمقاييس ممتازة، وبعد جهد كبير علمت أن بعض تلك المواد يمنع استيرادها عبر تركيا لأسباب أمنية، ولا يمكن إحضارها من مناطق النظام مما وقف حائلاً بيننا وبين انطلاق المشروع حتى الآن.

كما أطلق بعض السوريين مشاريعهم الخاصة بهدف تغطية نقص بعض المواد التي تعتبر مواد رئيسية في الشمال المحرر.

عمار مدير معمل  للمواد البلاستيكية يقول: “بدأت مشروعي منذ ستة أشهر تقريباً وقررت إنشاء معمل للمواد البلاستيكية ينتج أكياس نايلون بمختلف الأنواع والقياسات، وأهمها أكياس الخبز والخضروات والتي تعتبر حاجة ملحة في كل زمان ومكان، واخترت هذا المشروع بالتحديد لندرة مثل هذه المشاريع في المناطق المحررة.

يؤمن هذا المعمل فرصة عمل لعشرة عمال، ونعتمد في هذه الصناعة  بشكل رئيسي على الحبيبات البلاستيكية المستوردة من الخارج”.

يضيف عمار: “واجهتني صعوبة بالغة في تأمين مكنات المعمل بسبب عدم توفر هذه المكنات في المناطق المحررة، وحاولت أن أستبدل بعض القطع بقطع صنعتها محلياً لهذا الغرض ما سبب تأخراً كبيراً بالبدء بالإنتاج”.

يتابع عمار: “يعتبر تأمين المواد الأولية من أهم الصعوبات التي تعترض عملنا اليوم، لأن هذه المواد مستوردة بالكامل وسعرها مرتبط بسعر النفط العالمي ونلاحظ تقلب مستمر بأسعارها مما ينعكس على سعر المواد المنتجة إضافة إلى أن تلك المواد تستلزم وقتاً طويلاً لتدخل الأراضي المحررة بسبب وضع المعبر الغير مستقر”.

وفي الحديث عن سبل تطوير مثل هذه المشاريع يضيف عمار: “يشكل غياب الكهرباء عن المناطق المحررة عقبة كبيرة أمام الكثير من الشباب الذين يطمحون لإنشاء مشاريع داخل المناطق المحررة، لأن استعمال محركات الديزل في توليد الكهرباء مكلف جداً سواء من ناحية المصروف أو من ناحية الصيانة”.

ويرى عمار أن وجود الكهرباء سينعكس بشكل إيجابي على هذه المشاريع، ويساهم بخفض أجور المواد المنتجة مما ينعش الاقتصاد بشكل أكبر في الشمال السوري.

صادفنا الكثير من الشباب ممن لديهم أفكار لمشاريع صغيرة تؤمن دخلاً مادياً جيداً لهم، وتؤمن فرص عمل جيدة لعدد من الشباب، لكن غياب رأس المال وقف حائلاً بينهم وبين إقامة تلك المشاريع، ولو وجدت جهات رسمية أو منظمات مهتمة بهذا الجانب سنلحظ نهضة اقتصادية جيدة في المناطق المحررة، إضافة لانخفاض معدل البطالة بشكل كبير، كما تساهم تلك المبادرات المحلية في نهضة البلاد عموماً وتلعب دوراً مباشراً أو غير مباشر في مشاريع  إعادة الإعمار بعد الحرب، ففي هولندا، ازدهرت المعامل الصغيرة للأغذية المجففة والمربيات نظراً لحاجة السوق لها إبان الحرب العالمية الثانية، وكانت أسعارها باهظة في ذلك الوقت بسبب قلة المواد الغذائية والخضروات والفواكه في اللأسواق، ولكن هذا النوع من الأعمال لقي ازدهاراً مع نهاية الحرب وظهور حالة من الإستقرار النسبي في الأسواق، حيث ساهم بعض رجال الأعمال ممن أنشؤوا المعامل الصغيرة التي تطورت بعد الحرب بشكل ملحوظ في تمويل العديد من المشاريع لإعادة إعمار المناطق المدمرة من البلاد. لقد كانت الحاجة ماسة للعديد من الأعمال والمنتجات خلال سنوات الحرب والفترة التي تلتها في السوق الهولندية المحلية والأسواق المجاورة وخاصة في ألمانيا المجاورة التي خرجت خاسرة ومنهارة ومقسمة بعد الحرب، لذلك كانت تلك الفرصة للسوق الهولندية المستقرة نسبياً في استغلال حاجة الجارة ألمانيا للعديد من المواد، لذلك نشأت وازدهرت العديد من الصناعات الهولندية الصغيرة خلال سنوات الحرب الأخيرة وما بعدها.

التعليقات متوقفه