الثقافة والفنون والفِكْر في عيون السوريّين خلال الثورة – ريم الحمصي

بدأت الثورة ربيع (2011) وهي تتّكئ على الثقافة والفنون والمعرفة، حيث بدأت تستعمل الخطاب الذي أعجب الناس جميعاً، فكان خطاباً مثقّفاً رفيعاً واعياً للواقع”، هكذا وصف الشاعر والصحفيّ “إبراهيم الجبين” اقتران الثورة السوريّة بالثقافة والفنون منذ أولى خطواتها.

لكنْ ما الّذي قاد الفكر الثوريّ إلى ما آل إليه اليوم من فروقاتٍ وخلافاتٍ؛ بعدما جمع الشعب السوريّ بمختلف أطيافهم على مفهوم “الحُرّية”؟

الخطاب الثوريّ المثقّف من الكُلّ إلى الأنا

يُتابع الجبين: “ظهور موجةٍ عالميّةٍ سُمّيت في الأوساط الإعلاميّة المعادية للثورات بـ(الشعبوية)، ألصقت تهمةً جديدةً بالشعوب الثائرة، وهي الانتقال من مخاطبة النُخَّب للشعوب وقياداتها في المستقبل إلى مرحلة الانقياد الأعمى للأفكار السائدة بلا تطويرٍ أو تنميةٍ؛ ومن هنا ظهر الخطاب الغرائزيّ سواءً الدينيّ، أو الطائفيّ، أو العنصريّ، وكل ما يشبهه؛ متضمّناً اتّهاماً عامّاً مُسبَقاً لملايين الناس بالتخلًّف، والطائفيّة، والجهل، والعصبيّة”.

لكنّ التفاؤل باقٍ بعودة الثقافة الثوريّة إلى مسارها أو ببناء ثقافةٍ ثوريةٍ سليمةٍ من جديدٍ، تجمع الشعب السوريّ بأطيافه الفكريّة المختلفة، وأجاب عن ذلك رئيس تحرير “أورينت .نت” السابق، غسّان ياسين، رغم اعتباره “صعباً وغير ممكنٍ قبل توقّف آلة القتل، فقال: “لدينا اليوم العدوان الروسيّ، وقوّات النظام بمخزونه الكيماويّ، والميليشيات الشيعيّة الإيرانيّة واللبنانيّة، علاوةً على الخلافات داخل القِوى الثوريّة المتعدّدة؛ جميعها حوّلت البلاد إلى حلبة صراعٍ دوليّةٍ، فاقت قُدرة السوريّين على التحمُّل أو محاولة التفكير بحلٍّ يُنهي هذه المَقْتَلة. بمعنىً آخر؛ حين تنطفئ نار الحرب وتصمت أصوات المدافع، يعلو صوت المُثقّف ومعه صوت العقل، فنستطيع حينها الحديث عن نقاط التقاءٍ تجمعنا كمواطنين في بلدٍ واحدٍ”.

وفي السِّياق نفسه تحدّث الأستاذ الجبين: “نحتاج في سوريا إلى جبهةٍ ثقافيّةٍ تكون خطّ دفاعٍ يحمي المفاهيم الكُبرى للثورة التي لا يمكن التفريط بها؛ ولا أرى أيّ حلولٍ في المستقبل القريب للأوضاع في بلادنا من دون إعادة الاعتبار للثقافة، ومشاركة دورها في اتخاذ القرار لا كتابعٍ، بل كقائدٍ للرأي العامّ وصانعٍ المستقبل”.

الاستعراض الإعلاميّ على خشبة التواصل الاجتماعيّ

عندما عمد النظام السوريّ إلى إقصاء الإعلام العربيّ والعالميّ عن واقع الحرب الثورة، جاءت شبكة الإنترنت حلّاً بديلاً لنقل حقيقة ما يجري، فكان كلّ مواطنٍ شاهدٍ ضمن المناطق الساخنة مواطناً صحفيّاً ومُراسلاً ومُصوّراً للحدث. طبيعة وسائل التواصل الاجتماعيّ حشدت مع الوقت جمهوراً لكلّ ناشطٍ، كانوا بدايةً يتابعون عبرهم الأخبار ليصبحوا لاحقاً يتأثّرون بآرائهم بانحياز. وصف “إبراهيم الجبين” هذه الوسائل الإلكترونيّة بـ”المناخ الجيّد لظهور رأيٍ عامٍّ جديد ومؤثِّرين به جُدد”، وفسّر تأثير ذلك بأنّه أدّى إلى: “نشوء بيئةٍ من الأخذ والرد، والإعجاب مقابل الكراهيّة، والانجراف بالصداقات مقابل الرفض والعِداء؛ وهي كلّها قِيَمٌ جديدةٌ مُستفزَّةٌ لوعي الناس، سِيَّما حين يجري الحوار حول قضايا مصيريّةٍ، مثل مصير الوطن، والإنسان والآخر، والغد والمستقبل، والمُقدَّس والمُحرَّم”.

وفي أسباب الفُرقة الثوريّة التي سبّبتها هذه الوسائل، قال “غسّان ياسين”: “وسائل التواصل الاجتماعيّ فتحت أُفُقاً جديداً على صعيد العمل الثوريّ إعلاميّاً، وفنّياً، وسياسيّاً؛ وذلك لأنّها.. أوّلاً؛ كسرت احتكار النظام لمصادر المعلومات. ثانياً؛ سمحت لشريحةٍ واسعةٍ غُيِّبت إعلاميّاً وثقافيّاً وفنّياً بإبراز مواهبهم دون مقصّ الرقيب. وبالعموم؛ أرى لهذه الوسائل الدور الإيجابيّ، لإيصال صوتنا للعالم، وتوثيق جرائم، أيضاً اكتشاف مواهبَ برزت خلال الثورة، يمكن تمييز الجيّد منها عبر تفاعل الجمهور مع طروحاتهم، وأظنّ الوقت كافٍ والجمهور ذكيٌّ لتتمّ غربلة الجيّد من السيّء”.

وسهّلت وسائل التواصل انتشار عدوى الـ”Show” أو “الاستعراض” إعلاميّاً وبكثرةٍ، وقد صنّفت الناشطة “ياسمين الشامي” ذلك “كمرضٍ نفسيٍّ خطيرٍ، هدّد حامله ويهدّد الجمهور المتابع له”، مُعتبرةً شخصيّاته “مُحدثي نعمةٍ إعلاميّاً وجماهيريّا، أو تُجّار حربٍ لكن بطريقةٍ أخرى”، وعن أسلوبهم وهدفهم بهذا الاستعراض قالت: “هُناك من الشخصيّات من يريد الشهرة بأيّ وسيلةٍ كانت، ولو كانت إثارة الضجّة والبلبلة حول شرفها وحيائها، أو الابتعاد عن عقلانيّة الواقع والحقيقة، وأرى (جود عقّاد) تفوّقت في الآونة الأخيرة بذلك. وشخصيّاتٌ أخرى أراها تُحاول التخلّص من الضغط المُطبّق عليها وإخراج من بداخلها من كبتٍ، ومعظمهم من إعلاميّي النظام أمثال (شادي حلوة)، الذي يستعرض بفشلٍ مظهر الثبات والاستمرار في حربه التي لا يصدّقها كما يبدو ضدّ الإرهابيّين. وهناك شخصيّاتٌ بدأت مع بداية الثورة كبيرةً، مؤثّرةً، صادقةً، وذات إيمانٍ بثّته في نفوس جماهيرها الثوريّة؛ لكنّها ما لبثت أنْ وقعت في فخّ المناصب أو المال، فتنازلت عن مصلحة الثورة مقابل مصلحتها الشخصيّة، أو بالأحرى تخلَّت عن الثورة مقابل أن تعيش الحياة الكريمة التي حُرِمَت منها، وأشعر بغصّة فقدان هؤلاء أمثال (برهان غليون) و(خالد أبو صلاح) في ظلّ ما وصلنا إليه اليوم”.

“إبراهيم الجبين” وصف هذه الحالة بـ”مختبرٍ قائمٍ”، متفائلاً أنّه لن يستمرّ إلى الأبد”، مُعقّباً: “شأنه شأن كل منتجات الثورة التكنولوجيّة، ذو عمرٍ قصيرٍ، بينما تلحق به بضاعةٌ جديدةٌ أمام الجمهور المستهلك. ومع الأسف؛ كثيرٌ من تلك الشخصيات أثّرت سلباً، لكنّها في النهاية تضع أمامك المُفارقة، والباقي عليك أنتَ وعقلك ومُحاكَمَتك، فإن قبلت بالسيّء المطروح تكون مشاركاً به، وإن رفضتّه تكون منضمّاً إلى مجموعة قيمٍ أرفع”.

النقد البنّاء تهدّم على يد المستعرضين

عمّا آل إليه المسار الثقافيّ الثوريّ اليوم، ذكرت “ياسمين” ما أسمته بـ”الرأي الكامن والمكبوت في قلوب كل المُتابعين لثقافة الثورة اليوم”؛ فرأت أنّ هؤلاء “يعتبرون الثورة بما آلت إليه حاليّاً قد خرّبت حياتهم على الأصعدة الاجتماعيّة والنفسيّة والفكريّة؛ لأنّ هؤلاء المُتابعين المُتعبين من أحمال الحرب باتوا يتخبّطون مع ما تعرضه وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعيّ، من ثقافةٍ اضمحلّت فيها روح الثورة، وتحوّلت إلى ميدانٍ للتخوين والنقد الهدّام دون فهمٍ أو حوار، ناهيكَ عن تصنيف المصادر حسب ألمعيّة وجماهيريّة الشخص لا حسب موثوقيّة الكلام والمعلومات التي يقدّمها؛ فكلّ من يحكي على هوايَ أثق به وأتابعه وأتبنّى رأيه”.

وللتعبير عن هذا “الرأي الكامن والمكبوت” ظهرت مُحاولاتٌ من صميم الواقع الساخر، فكان “المعاليق” الذين وقعوا في فخّ “شوفوني”، فلم يسلم أحدٌ من نقدٍ أطفأ نجم المستعرضين، الذي أعمى الجمهور الثائر عن الحقيقة.

بداية /2012/ اعترض خمسة شُبّانٍ سوريّين على “ولادة ديكتاتورٍ جديدٍ في البلاد ما بعد الثورة”، لذلك ترجموا اعتراضهم ثورةً صغيرةً على أخطاء وتجاوزات الثورة الكُبرى، فأنشؤوا صفحة سُمّيت “شوفوني” عبر الفيس بوك، هدفها هو إبعاد طريقة تفكير النظام القديمة عن العقل الثوريّ -حسب ما ذكره مدير الصفحة في مقابلةٍ سابقةٍ لموقع “العربيّة”- فقال: “اتّخذنا قراراً وعهداً برَصْد مَنْ يُفترَض أنّهم يمثّلون المعارضة السوريّة”، وفعلاً لم ينجُ من انتقاداتهم أيّ سياسيّ مهما علا منصبه أو حتّى مقاتلٍ أخطأ من الجيش الحُرّ. وأضاف مدير الصفحة: “عندما انطلقت صفحتنا من مبدأ انتقادٍ بالمُزحة، لم نتوقّع أن تتطوّر لتصبح الناقد الأوّل، وكان لهذا ثمنٌ طبعاً، إذ تنال الصفحة كثيراً من الاتّهامات بالمبالغة والتربُّص، عدا عن الشتائم عبر التعليقات، خصوصاً أنّ من ننتقدهم هم أشخاص وقفوا مع الثورة منذ البداية وتغيّروا بعدها، كما تصلنا التهديدات بشكل دوري بإغلاق الصفحة أو تهكيرها”. ويبدو أنّ التهديدات حقّت ونجحت في إغلاق فم الحقَّ هذا، دون محاولةٍ للفهم أو التقويم.

على نفس المنهج الناقد عُرِفَت صفحاتٌ أخرى، مثل “معاليق الثورة” و”دبّوس ثقافي” وغيرها، ولاقت نفس المصير المتسرِّع بالتهديد ثمّ التهكير والإغلاق، ربّما كان الأسلوب ثقيلاً على المحقوقين، لكنّه بقي محاولةً صادقةً لإبقاء الثورة السوريّة على المسار الصحيح.

“الرسم على الموت”.. بريشة الحصار

استمرّت الثورة مرِنةً بقدر تغيُّر ظروف الحرب، التي أقفلت على الشعب في الحصار المُطبِق، فظهرت الثورة في مثل هذه الظروف بدائيّةً كبدائيّة الحياة الأولى في الحصار، وأنتجت فنوناً اتّسمت بشراسة الحاجة إلى البقاء.

“أكرم أبو الفوز” اسمٌ لمع في الغوطتَين، وعن مشروعه الأوّل من نوعه في الثورة “الرسم على الموت” حدّثنا:

بدأ تجربته أوائل عام /2014/ مطبوعةً بسلميّة الثورة السوريّة كما انطلقت، فيقول” “بعد دخول الحِراك المُسلّح ميدان الثورة، أحسستُ بمسؤوليّتنا كناشطين أن نقدّم إنتاجاً يُذكّر بروح السلميّة الأولى، فكانت ولادة هذا العمل حينها، وبدأته بقليلٍ من فوارغ الرّصاص، وقذائف الهاون الصّغيرة، وبقايا صاروخٍ عنقوديٍّ؛ ثمّ تبلورت بذهني الفكرة كاملةً، وبدأتُ أجمع ما ترميه الحرب من مخلّفاتٍ تُقصَف بها مدينتي “دوما” يوميّاً”.

لكنّ مشروعاً سريعَ النّبْضِ بالحياة في مكانٍ حاصره الموت، تطلّب من “أكرم” تسلُّق مصاعب الحياة في الغوطة الشرقيّة، لبلوغ مرحلةٍ متقدّمةٍ من التحمُّل لا زَوْد فوقها ولا حلّ لها إلّا التراجع إلى الوراء، فاضطرّ إلى تجميد المشروع مؤقّتاً لحين فك الحصار، مُعلّلاً ذلك بأنّه “مجرّد توقّفٍ مؤقّتٍ ولأسبابٍ عديدةٍ”، ذكر لنا بعضها: “صراحةً؛ لم أعتزل العمل بحرفيّة الكلمة، بل ما يزال لديّ جُعبةٌ من فوارغ الرصاص وبقايا القذائف والصواريخ ما يكفيني للرّسم والزّخرفة عاماً كاملاً!!. لكنْ لا يخفى عن أحدٍ الحصار المُطبِق على الغوطة الشرقيّة، وما آلت إليه حالها من جوعٍ وقصفٍ يوميٍّ ونزوحٍ جماعيٍّ، بالإضافة إلى انقطاع جميع مستلزَمات العيش والتواصل، فلا كهرباء، ولا ماء، ولا اتّصالات.. إنّني أُعارك جميع أنواع العوائق في محاولةٍ -بدأت أيأس منها- لأستمر في هذا العمل، فمواد ومعدّات الرسم انتهت من عندي، وإنْ حاولت تأمينها من خارج الغوطة فهي ذات كلفةٍ باهظةٍ جدّاً ولا أستطيع تحمُّلها، ومن جهةٍ أخرى؛ طالما أنّ الحصار مفروضٌ علينا ستبقى أعمالي الفنّيّة حبيسة المنزل أيضاً، فالحصار يفرض علينا عدم الدّخول والخروج من وإلى الغوطة، وبالتّالي لا أستطيع إخراج أيٍّ من هذه الأعمال الفنّية ولا إدخال أيٍّ من الموادّ والمعدّات التي أحتاج؛ رُغم أنّ الطلب على أعمالي راج مؤخّراً من قبل عدّة مؤسّساتٍ ومتاحفَ ومعارض، ولكنّ الحصار يقف سدّاً منيعاً أمامي.. ولا أنسى وجود أسرتي وأطفالي، الذين هم أحقّ أن أُعيلهم في هذه الظروف الصعبة، لذلك التفتُّ إلى إيجاد عملٍ إنْ لم يكُن فنّيّاً ففي المجال نفسه، لكن يعود عليّ وعلى عائلتي بمردودٍ ماليٍّ مناسبٍ لوضعنا في الحصار، خاصّةً وأنّ إيجاد عملٍ حاليّاً في البلاد بات صعباً على حَمَلة الشهادات والشباب الصِّغار، فما بالك بغيرهم، يصبح إيجاد عملٍ كريمٍ أصعب حينها !!. وقرّرت حاليّاً ترك الزخرفة هوايةً لأوقات الفراغ، آملاً أن يتحسّن الحال في المستقبل”.

الفنّ الثوريّ من روحانيّة الفكرة إلى ماديّة المهنة

هذه الحالة الانتقاليّة أكثر ما تجسّدت في فنون الأغاني الثوريّة، فبدأت مع المظاهرات هُتافاتٍ تعبّر عن المطالب، ثمّ تطوّرت إلى أناشيد تُحيي ليالٍ من الصمود في ذكرى كلّ سنةٍ جديدةٍ من عمر الثورة، ومع كون الثورة حالةً شعبيّةً عامّةً احتضنت فيها الأصوات الشجيّة المعارضة والموسيقيّين المُرهفين بروح الثورة، أمثال “عبد الباسط ساروت” و”إبراهيم القاشوش”، فحفظ الشعب ما ينشدونه، حتّى وصلت تلك الأناشيد مع اللاجئين والمُهجّرين إلى الدول الأخرى، ووصلت معها الأنشودة الثوريّة السوريّة إلى العالميّة. لكنّ سنين الثورة طالت وأحمال الحرب ثقلت على كواهل الفنّانين الثوريّين، فاتّجهوا إلى باب الرزق الأقرب إليهم منذ ما قبل الثورة، وساعدهم في ذلك ما ظهر من وسائل إعلاميّةٍ معارضةٍ مرئيّةٍ ومسموعةٍ احتاجت مخزوناً فنّياً ثوريّاً تتطبّع به؛ فجاءت العروض التشغيليّة والماديّة شيئاً فشيئاً لتُحوّل الفنّ الشعبيّ إلى إنتاجٍ تجاريٍّ فيما بعد، ومن مثيل ذلك؛ الألبوم الغنائيّ الذي تبنّت إذاعة “هوا سمارت” إنتاجه للمنشد “أبو مالك الحمويّ” عام /2015/، مع التزامه حتّى اليوم بالإنشاد الشعبيّ رُغم انحسار موجة المظاهرات.

الرسّام “أبو الفوز” رأى انتقالة الفنّ من ثورةٍ لمهنةٍ يكون في أحد الأحوال التالية: “حال العَوَز أو الحاجة، وحال الإقبال الشديد على هذا الفن من خلال رسالته الجيّدة والمفيدة للثورة”، مُضيفاً: “الجوّ العام للحرب هو الذي يخلق شريحةَ كبيرةً من مُستعطفي الفنان وفقاً لنمط حياته الخاصّة، فالحياة في الحصار وتحت القصف تميّز العمل الفنّي بصعوبة تنفيذه وتقديمه، ناهيك عن المنظّمات والمؤسّسات التي ترى الحرب كباب رزقٍ، تُحاول عبره استغلال أيّ موهبةٍ أو أيّ فنٍّ يكبر في الدّاخل السوريّ. ولا أتوقّع إنْ كان أيّ إنسانٍ مرتاحاً في معيشته من الناحيتَين النفسيّة والمادّيّة أنْ يُحوّل هوايته لعملٍ دائمٍ؛ إلّا إنْ كانت هوايته مهنةً بحدّ ذاتها امتهنها قديماً، وبالتّالي تصبح الوارد الوحيد له”.

يُذكر أنّ عشراتٍ من الفنّانين والمُنشدين الذين لم يلتحقوا برَكْب الإنتاجات المادّية خارج سوريا، قد نالوا من النظام مصائرَ بشعةً حاولت إخراسهم بأيّ ثمنٍ، أمثال “إبراهيم القاشوش” الذي شاع خبر مقتله واقتلاع حنجرته بشكلٍ بشعٍ، وآخرين كُثُر إنْ نجوا من النظام لكن حاربتهم “داعش” تحت طائلة التكفير.

ذاكرةٌ محفورةٌ بعُمق الجُرح

صعودٌ وهبوطٌ؛ فروقاتٌ واجتماعاتٌ، تقلُّباتٌ واستقرارٌ، وأحوالٌ كثيرةٌ حكمت الفكر الثوريّ السوريّ من ثقافةٍ وفنٍّ وغناءٍ وأعمال إبداعيّةٍ وإعلاميّةٍ؛ لكنّها تبقى الطابع المميّز لهذا الإنتاج الشعبيّ على مدار سبع سنواتٍ، فهو نتاج شعبٌ ملوّن الأديان والانتماءات والخلفيّات، ومنه سيتمّ تأسيس مجتمع “سوريا الجديدة الحُرّة”، التي تحتضن كلّ هذه الاختلافات بحرّية الرأي والتعبير، بعيداً عن سياسة التكميم والصمت طوال عشرين عاماً مضت. ربما ورغم قساوة سنوات الحرب في سوريا، ثمة إبداع يولد ويكبر من وحي المعاناة، مثل ما حصل في أوربا خلال الحرب العالمية الثانية التي طحنت البشر والحجر، فرغم الآثار المدمرة للحرب في مجال الفنون وإتلاف عدد كبير من اللوحات القيمة على يد المتنازعين, فقد أغنت تلك الحقبة الفن الحديث بلوحات ومنحوتات وروايات أدبية عما بات يعرف بالفن السياسي وفن المقاومة, فقسوة هذه الحرب ومعاناة الفنانين فيها, لامست روحهم لتنتج أعمال تجسد الواقع برمزية أو بشكل صارخ، كما أسهمت بوصول الفن إلى جميع طبقات المجتمع وليس حصراً على طبقة الفنانين, فالعدد الأكبر من المعتقلين لم يكونوا من رواد مدارس الفن, غير أنهم أورثوا لوحات على الورق والجدران تروي قصة حديدٍ طُرق فلمع.

 

التعليقات متوقفه