المثقف الهضيلة وذهنية المحاكاة – أحمد اليوسف – خاص الغربال

المثقف الهضيلة وذهنية المحاكاة

أحمد اليوسف

أحمد اليوسف – خاص الغربال

الهضيلة هو شخصٌ لا يبني أفكاره بنفسه، ولا يصيغ قيمه بنفسه، ولا يتّخذ مواقفه بناءً على رؤى ذاتيةٍ، بل هو من تكون كلّ أفكاره ومبادئه محض محاكاةٍ لقيم وأفكار الآخرين. والهضيلة لا عمق لديه، فهو يعيش جلّ حياته على السطح، متمثلاً أعماق الآخرين. ولدى الهضيلة، ما من فسحةٍ ما بينه وبين أفكاره، تسمح له بإعادة النظر في معتقداته ومواقفه ومبادئه، إذ يبقى رهين المثل والمبادئ التي يحاكيها. وليست حقائق الهضيلة بتجربةٍ معاشةٍ تمخضت عن معاناةٍ شخصيةٍ، بل هي محض امتثال لحقائق نالت مسبقاً حظوةً اجتماعيةً أو ثقافيةً أو سياسيةً، لطالما أن الامتثال توأم المحاكاة.

وليس للهضيلة من فرادةٍ أو جدةٍ أو فذاذةٍ، بل هو نسخةٌ متكررةٌ طبق الأصل، لكنها، ككلِّ تكرارٍ رتيبٍ وتقليدٍ أعمى، تفتقر تماماً إلى الأصالة. وليس للهضيلة من وعيٍ، حيث أنّ الوعي فهمٌ للأشياء، في كليّاتها، وفي شروطها، وفي تعقيداتها الداخلية، بعيداً عن التفسيرات الأحادية.

وثقافتنا العربية عموماً، والسورية على وجه الخصوص، غنيةٌ بنماذج الهضلنة؛ فتجد فيها من يتبنى الحداثة تنظيراً، فيبحث في راهنيات الآخرين عما يمجّده، طالما أن الحداثة هي تمجيدٌ للراهن وقطيعة مع الماضي. وعلى هذا الأساس، يمكن فهم من يكتب عن مجازر الأرمن بوصفها حدثاً راهنياً، لم يمض عليه أكثر من قرن، وينسى أو يتناسى مجازر تشغل كل راهنيات الوجود في سوريا، حيث أبدية الماضي تغتصب الحاضر الذي ثار عليه مطالباً بإسقاطها. وهناك الكثير من النماذج الشخصية في المثقف الهضيلة، منها أساتذة في جامعة تشرين، حيث تجد شخصاً ينشر في زمن محنة الموت الجماعي أشعاراً لطاغور في الحب، ويلعن، في الوقت نفسه، ضجيج النازحين، ويكتب عن توجساته من التحولات البيئية في القطب المتجمد، بينما تغفوا توجّساته وهواجسه في نوم عميق، حينما يتعلق الأمر بحرق النظام لأراضي الفلاحين الثائرين. وهناك من ينظّر أيضاً لقيم الاختلاف في محاكاته لكتبٍ قرأها دونما أن يفهمها، لينتهي به ذلك إلى تبني فكرة الاختلاف على شكل محاكماتٍ عرفيةٍ جازمةٍ قاطعةٍ معمِّمةٍ شاملةٍ لكل ضحايا الاختلاف المفقود، محاكياً هكذا، من دون أن يدري، ذهنية وزارة الاختلاف العسكرية.Print

والمثقف الهضيلة ليس شخصاً سيئاً، بل كل ما هنالك أن السوء يأتي من الأفكار والقيم والشخصيات والمرجعيات الفكرية التي يحاكيها، بدون مراجعةٍ نقديةٍ؛ فتجده يمتدح ثورة الطلاب والمهمّشين في أوروبا سنة 1968، وينسى أنه هو نفسه في سوريا هامشٌ لا متن له. والمثقف الهضيلة لا رابط بين مبادئه الثابتة وأحكامه المجسِّدة لها، فيمكنه أن يدين جريمة بعينها –كقطع رأس تمثال– من دون أن يذهب بعيداً، ليدين فعل قطع الرؤوس: كقطع رؤوس الأطفال الأبرياء من درعا إلى حلب.

ولدى الكهنوت الديني هضلنته أيضاً، لطالما أن الهضلنة روح الثقافة في حقب الانحطاط الحضاري، حيث يتحول الدين اليوم إلى محض محاكاة، تجرّم الحاضر لخروجه عن صنمية الأسلاف، على الرغم من نقد الأسلاف أنفسهم للذهنية الأمعية الامتثالية القائمة على مبدأ: “إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ”.

وتبلغ الهضلنة ذروتها في إبداعاتنا الفنية، فيذكر عبد الوهاب المؤدب طرفةً موحيةً معبرةً، مفادها أنه حين دعت الجالية العربية، في باريس، أهل الثقافة والفن، لحضور معرضٍ لنخبةٍ من الرسامين العرب، تقدّم ممثل الوفد الفرنسي ليقول باندهاشٍ، لما رآه من قدرة الرسامين على محاكاة الفنّ الغربيّ، حتّى وكأنهم يقدمون نسخاً طبق الأصل: “هذا جميلٌ ورائعٌ، لكن هذا نحن (أي الغرب)، فأين أنتم؟”. على هذا الأساس، ربما نفهم أحد أهمّ أسباب إدانة بعض السوريين، المجسّدين لنموذج المثقف الهضيلة، للثورة السورية. فقد أدانوها لأنهم ارتبكوا أمام فرادتها، ولأنهم لم يستطيعوا أن يجدوا فيها تكراراً لما حدث في الماضي. وباختصار، عندما لم يجد المثقف الهضيلة للثورة مثالاً تحاكيه في ثقافات الغير، قام بإدانتها.

التعليقات متوقفه