المنظمات الدولية في إدلب بين خيارين التوقف عن العمل أو الالتزام “بشرع الله”! – محمد السلوم

لم تعرف سوريا قبل الثورة أي نوع من أنواع المنظمات الدولية أو مشروعات العمل المنظماتي الأجنبي، وكان عمل هذه المنظمات في حال وجوده يمر من خلال القنوات الحكومية والأمنية حصراً، مما حال دون وجود فاعلية حقيقية لها على الأرض وغلبة الفساد المالي على مشروعاتها.

ومع بدء الثورة وخروج المناطق تباعاً عن سيطرة قوات النظام ومارافق هذا الخروج من تدمير وتخريب للبنى التحتية وتهجير للسكان وتدمير منظم للمدن والقرى، بات عمل هذه المنظمات جزءاً أساسياً من حياة المواطنين، فهي تقدّم خدمات أساسية عديدة وخاصة في مخيمات النازحين الداخلية.

الغربال تستعرض في هذه الصفحات مسيرة عمل واحدة من أهم هذه المنظمات، وهي منظمة الإنقاذ الدولية IRC وكيف تم التعامل معها في الفترة الأخيرة من قبل التنظيمات الإسلامية في الشمال السوري، وكيف ساهم ذلك بتغيير سياسات عمل المنظمة.

عن المنظمة ودورها في سوريا:

لجنة الإنقاذ الدولية IRC، منظمة إنسانية غير بحية، مقرها الأساسي في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، أسسها ألبرت أينشتاين عام 1933.

وهي رائدة في مجال الإغاثة في حالات الطوارئ وإعادة التأهيل، وحماية حقوق الإنسان، والتنمية في مرحلة ما بعد الصراع، وخدمات إعادة التوطين والدفاع عن أولئك المشردين أو المتضررين من الصراع.

تساعد الأشخاص المتضررين لإعادة سبل العيش لهم التي مزقتها الصراعات والكوارث للبقاء على قيد الحياة، وتوفر الرعاية الصحية والبنية التحتية والتعليم والدعم الاقتصادي للسكان في 40 بلداً تقريباً، مع برامج خاصة للنساء والأطفال.

وحالياً تقوم بتقديم الدعم للاجئين السوريين في سوريا والأردن ولبنان والعراق وتركيا واليونان، وتقول المنظمة إنها قدّمت الخدمات الطبية والطوارئ لقرابة 900.000 سوري، وتعمل بشكل مباشر في مخيمات النازحين في الشمال السوري من خلال أربعة مكاتب في قاح ودركوش وآفس في إدلب، وأعزاز في حلب حيث توفر المياه النظيفة والصرف الصحي، والتعليم، ومعدات الطوارئ لعشرات الآلاف. كما تقدّم الدعم النفسي والتعليمي للنساء والأطفال في المخيمات بالإضافة إلى تشغيل عيادات طبية ثابتة ومتنقلة، قدمت الرعاية الصحية والأدوية المجانية لأكثر من 30.000 سوري.

وهي عادة لا تتعاطى مع وسائل الإعلام والتواصل، وذلك بروتوكول أساسي بالنسبة لها.

مضايقات مستمرة، بحجج متنوعة:

لم تكن بيئة العمل مريحة على الدوام للمنظمة، ولكنها كانت أفضل حالاً قبل وصول التنظيمات الإسلامية إلى الشمال السوري، حيث وقعت حوادث متفرقة كان هدفها غالباً الابتزاز والحصول على الأموال أو المساعدات، ولكن بعد وصول هذه التنظيمات اختلف الأمر كثيراً، عبد الهادي أحد موظفي المنظمة يخبرنا كيف أن تلك التنظيمات نظرت منذ البداية بتشكيك للمنظمة وعملها، يقول: (قامت مجموعات إسلامية مسلحة بمهاجمتنا أكثر من مرة وقاموا في كل مرة باعتقال أحد الموظفين بحجج متنوعة، فنحن متهمون دائماً بأننا عملاء للغرب الكافر، وموظفاتنا متبرجات بما يخالف شرع الله، كما نروّج للمنتجات الغربية، وعملنا كله هو غطاء لعمليات التنصير التي نقوم بها بشكل سري)!

اقتحام جبهة النصرة لمكاتب المنظمة ومستودعاتها:

في العاشرة والنصف من صباح 8 حزيران 2015، هاجمت جبهة النصرة مكتب المنظمة الأساسي في قاح ومستودعاته برتل مسلح توجّه إليها من بلدة سرمدا، حيث تم تطويق المكتب والمستودعات، يقول عبد الهادي: (صادروا الجوالات واللابتوبات كلها على الفور، ثم طردوا الموظفات والعاملات في المنظمة، فيما احتجزوا الشباب في غرفة، حققوا معنا حتى الساعة  الثالثة عصراً ثم أطلقوا سراحنا بعدما أعادوا لنا الجوالات الشخصية، واعتقلوا أربعة موظفين واستولوا على اللابتوبات كلها وكل مافي المكتب من تجهيزات وأثاث، ثم وضعوا عناصر لهم في المكتب بعدما كتبوا على الجدران عبارات: جبهة النصرة تنظيم القاعدة في بلاد الشام، وعلقوا الأعلام الخاصة بهم).

المستودعات هي الأخرى لم تكن أفضل حالاً، إذ قام عناصر التتظيم بإحضار شاحنات كبيرة أفرغت على امتداد يومين كاملين موجودات 6 مستودعات ضخمة واستخدموا في تفريغها يافعين من المخيمات المجاورة بعدما وعدوا بدفع أجور لهم لقاء عملهم ولكن ذلك لم يتم في النهاية.

المستودعات حوت مستلزمات متنوعة جداً من أثاث للمكاتب والمدارس وتجهيزات طبية ومولدات كبيرة للكهرباء ومضخات مياه للآبار التي كانت المنظمة تنفذها في المخيمات وغير ذلك.

الموظفون الأربعة الذين تم اعتقالهم هم: كيال كيال مدير العلاقات العامة، منهل عبود مشرف تعليمي، حسن الحسن أمين مستودع، إبراهيم إبراهيم معاون أمين مستودع، والحجة كانت: “فساد إداري”.

وعلى إثر ذلك أعلنت المنظمة بعد اجتماع طارئ لمكتبها الإقليمي في أنطاكيا إيقاف عملها في الشمال السوري حتى إشعار آخر.

بعد وقوع الاقتحام عبر العديد من أبناء المخيمات والمنطقة المحيطة عن ارتياحهم لما حدث! وعن مطالبتهم بتحقيق “شرع الله” ولكنهم سريعاً اكتشفوا أن جميع خدمات المنظمة توقفت ولم يقدم أحد بديلاً عنها، فالماء الذي كان يقدم مجاناً أصبح سعر الصهريج منه 3000 ليرة، كما توقف 14 مركزاً تعليمياً كان يقدّم خدماته لقرابة 55 مخيماً في قاح وأطمة تضم أكثر من 50 ألف نسمة، وتوقفت أربع عيادات طبية ثابتة وثلاث عيادات جوالة واختفى مستودع الأدوية، وتوقفت كذلك خدمات الكهرباء وترحيل القمامة والصرف الصحي. وبات أكثر من 200 موظف وعدد كبير من المتطوعين والعمال المياومين عاطلين عن العمل.

ومع ارتفاع حالة التململ لدى نازحي المخيمات وخاصة مع انتشار القمامة وانقطاع المياه وخروج بعضهم في مظاهرات احتجاجية؛ تحرّكت بعض التنظمات كأحرار الشام وقامت بوساطة لإنهاء المشكلة، فتم إطلاق سراح الموظفين المعتقلين يوم 13 حزيران 2015 من سجن حارم دون اتهامهم بشيء، وأُعلِن أن ماحدث كان تصرفات فردية وغير مسؤولة، وتمت إعادة المصادرات إلى المنظمة.

ومن الجدير بالذكر أن جبهة النصرة اقتحمت في اليوم ذاته 13 حزيران مكتب منظمة Save the Children الكائن في بلدة حزانو في ريف إدلب الشمالي، في سيناريو مشابه لما حدث مع لجنة الإنقاذ الدوليةIRC  .

بعد إعادة المعدات شكّلت المنظمة لجنة جرد، اكتشفت بنهاية عملها أن ما تمت إعادته هو 40% فقط من الموجودات الأصلية، وقسم كبير منها كان تالفاً وغير صالح للاستخدام بسبب النقل الفوضوي والعشوائي، وأعلنت المنظمة أمام هذا النقص استمرارها بالتوقف لحين إعادة بناء نفسها واستكمال النواقص.

وبعد مدة قصيرة أعيد افتتاح مكتب المنظمة، وافتتح مكتب جديد لها في آفس وآخر في أعزاز.

تغييرات في سياسة المنظمة بعد الاقتحام:

المذكرة الداخلية التي أصدرتها لحنة الانقاذ الدولية - خاص للغربال
المذكرة الداخلية التي أصدرتها لحنة الانقاذ الدولية – خاص للغربال

بعد اقتحام مكتب المنظمة الأساسي واستئنافها العمل؛ اتبعت المنظمة سياسة جديدة أسندت بموجبها منصب مدير العلاقات العامة في كل من مكاتبها لشخصية إسلامية التوجه، لتحقيق التوازن والتعامل مع الفصائل والمحاكم الإسلامية المتعددة وتسهيل عمل المنظمة.

من هؤلاء كان (الشيخ عبد الرحمن دردورة) مدير العلاقات العامة في مكتب دركوش، والذي يرى موظفو المكتب أنه مسؤول عن مضايقات دائمة للموظفين وعرقلة لأعمالهم قد تؤدي في نهاية المطاف لإغلاق المكتب بشكل نهائي، كما يرون أنه كان المحرك الأساسي وراء المذكرة الداخلية التي أصدرتها المنظمة والمعنونة بـ “قواعد اللباس المحلي” وقد حصلت الغربال على نسخة منها، ونصها:

قواعد اللباس المحلي

مذكرة داخلية
التاريخ: 28 صفر 1437
11 تشرين الثاني 2015
هذا تذكير لجميع العاملين في لجنة الإنقاذ الدولية بأهمية اتباع قواعد اللباس المحلي الخاصة بمحافظة إدلب، وضمن كافة المناطق التي نعمل بها، قواعد اللباس الخاصة بمحافظة إدلب وبضمنها “دركوش، قاح، آفس” تتطلب ما يلي:
للنساء:
خلال فترات العمل وأثناء التنقل وهذا يشمل الموظفين القادمين من مراكز أخرى للمنظمة والعاملين في المكتب أو أي مرفق لهم:
–          تجنب استخدام أي نوع من الماكياج والعطور وأي نوع من أنواع الوشم سواء كان مؤقت أو دائمي، ويشمل ذلك حواجب العيون.
–          تجنب الملابس الملونة الخفيفية والملابس التي تحتوي على النصوص باللغة الإنجليزية أو الصور/الرسومات وخاصة تلك التي يمكن أن تفسر بشكل خاطئ أو غير مقبول.
–          تجنب الملابس الضيقة بما في ذلك الجنز، والتأكد من أن اللباس الخاص بك يغطي الساق وصولاً إلى مستوى القدمين.
–          تجنب ارتداء الأحذية ذات النهاية المفتوحة (يجب أن تغطي القدم بشكل صحيح).
–          خلال ساعات العمل يمنع اختلاط الموظفين الذكور مع الإناث في المكتب أو مع أي مرافق وغيرها، ويشمل ذلك التنقل سيراً على الأقدام أو باستخدام وسائط التنقل.
–          الحفاظ على صوت منخفض عند التحدث مع الزملاء الآخرين أو المستفيدين في المكتب أو في أي مركز تابع للمنظمة.
–          للموظفات الإناث في مكاتب قاح دركوش وآفس المطلوب منهم ارتداء عباءة سوداء فضفاضة خالية من أي رسوم أو شعارات والتأكد من تغطية تامة للرأس مع مراعاة تامة لتغطية الشعر، (الأذنين والرقبة).
بالنسبة للموظفين الذكور أو لأي مرفق لهم والعاملين في المكتب أو في ميدان العمل أو خلال التنقل:
–          تجنب السراويل القصيرة والجنز الضيق.
–          تجنب الملابس التي تحتوي على النصوص باللغة الإنجليزية أو الصور/الرسومات وخاصة الك التي يمكن أن تفسر بشكل خاطئ أو غير مقبول.
–          تجنب أي نوع من الحلي والأوشام للرجال.
–          تجنب التدخين في أي من مرافق المركز والمناطق العامة التي لايسمح بالتدخين بها، وترك أبواب المكاتب الداخلية مفتوحة في حال عدم وجود نشاط عمل يستدعي غلقها (اجتماع أو مقابلة الخ).
سيقوم مسؤول مكتب العلاقات العامة في المكاتب الثلاثة بالتأكد من تطبيق، الإرشادات المذكورة أعلاه من قبل جميع الموظفين والمتطوعين والمرافقين (إن وجد)، ورفع تقرير للإدارة في حال عدم الالتزام الكامل بتلك الشروط المذكورة أعلاه لاتخاذ ما يلزم.
شكراً لكم ودمتم بخير
إدارة المنظمة

أحد موظفات المركز والتي فضلت عدم الكشف عن اسمها علّقت على هذه المذكرة قائلة: (لن يصدق أحد أن هذه المذكرة صادرة عن منظمة أجنبية، فمن يقرأ تفريعاتها لن يشك للحظة أنها صادرة عن التنظيمات الإسلامية نفسها بل إن التنظيمات لم تدقق على الجزئيات المذكورة في المذكرة، هذا اللباس لم يكن يوماً لباس الأهالي في إدلب، والزعم أنه هو اللباس المحلي لنا هو افتراء واضح).

موظف آخر رأى أن الاستمرار بهذه السياسة سيتسبب دون شك في إغلاق مكتب دركوش وربما إيقاف المنظمة لعملها بشكل كامل في المنطقة.

يُذكر أن عناصر محسوبين على جبهة النصرة هاجموا في وقت سابق مكتب دركوش واحتجزوا الموظفات لمدة ساعتين بتهمة التبرج والعمل على نشر أفكار غربية كفرية، كما هوجم المركز مرة أخرى بعد توزيع حقائب مدرسية؛ لأن الحقائب عليها صور شخصيات كرتونية وهذا يساهم في نشر الفساد!

يتبع لمكتب دركوش مكتب تعليمي يقدم خدمات كاملة لأربع مدارس بما فيها رواتب بقيمة 400 دولار لكل مدرس، ومكتب طبي، ومكتب لتمكين المرأة، ومكتب آخر باسم مكتب تمكين الشباب يُقدّر عدد المستفيدين منه بحوالي 400 شخص، يعملون في النظافة والصرف الصحي وترميم المرافق، ويحصلون على قسيمة يومية بقيمة 20 دولار، ويعملون قرابة 20 يوماً في الشهر، كما يضم المركز مكتباً لحماية الطفل والدعم النفسي.

يتهم البعض المنظمة بدعم التنظيمات المتطرفة من خلال إقامة مشاريعها في مناطق تسيطر عليها هذه التنظيمات، ولكن المنظمة تؤكد أن أعمالها إنسانية بحتة ولا علاقة لها بأحد وهدفها مساعدة المحتاجين والمتضررين من الحرب.

فيما لا يستبعد آخرون أن تغلق المنظمة أبوابها وتوقف مشاريعها في سوريا نتيجة المضايقات الدائمة، كما فعلت الكثير من المنظمات الأخرى منذ سيطرة التنظيمات الإسلامية على المنطقة.

1

التعليقات متوقفه