فارس الخوري.. عميد السياسة السورية – محمد السلوم
في 14 تشرين أول 1944 طلب الرئيس السوري السابق شكري القوتلي من فارس الخوري تشكيل الوزارة، فعلَّقت صحيفة Daily Mail البريطانية على ذلك قائلةً: “فارس الخوري هو عميد السياسة السورية، وقد سار في سائر أدوارها منذ العهد العثماني، ويُعتبَر أكبر وأقدر مفكِّر في الشرق الأدنى. متضلِّع في القانون والاقتصاد السياسي والأدب، ومعروف بثقافته السكسونية. وإن مجيئه إلى رئاسة الوزارة، وهو مسيحي بروتستانتي؛ يشكّل سابقةً في تاريخ سوريا الحديث، بإسناد السلطة التنفيذية إلى رجل غير مسلم، مما يدل على ما بلغتْه سوريا من النضج، كما يدلّ على ما اتّصف به رئيس الدولة من حكمة وجدارة”.
في هذه المادة تسلّط الغربال الضوء على سيرة حياة هذا الرمز الوطني ومواقفه، بعدما غيّبته سياسات البعث الإقصائية وغيبت غيره من رجالات سوريا؛ عقوداً طويلة.
سيرة حياة حافلة لفارس الخوري
هو فارس بن يعقوب الخوري ولد سنة 1873 في قرية الكفير التابعة حالياً لقضاء حاصبيا في لبنان. كان والده نجاراً مشغولاً بعمله في حين اهتمّت بتعليمه والدته حميدة بنت عقيل الفاخوري، تلقى علومه الابتدائية في مدرسة القرية، ثم بالمدرسة الأمريكية في صيدا.
دخل بعد ذلك الكلية الإنجيلية السورية (الجامعة الأمريكية في بيروت) حيث حصل فيها على شهادة بكالوريوس في العلوم عام 1897، وكانت شهادة ثقافية عامة ليس فيها اختصاص في أحد فروع العلوم أو الآداب.
عُين ترجماناً للقنصلية البريطانية في دمشق بين 1902- 1908، حيث أكسبته وظيفته الجديدة نوعاً من الحماية من تجاوزات الحكم العثماني.
درس التركية لغة الدولة، والفرنسية التي كانت شائعة في الأوساط الدمشقية التي كان يتردّد عليها، وخاصة في أوساط عائلات باب توما؛ دون معلم، وامتهن المحاماة، وفي عام 1908 انتسب لجمعية الاتحاد والترقي ثم انسحب منها في العام 1912 بعدما اتضحت له غاياتها السياسية. رشَّح نفسه لـ”مجلس المبعوثان” (البرلمان العثماني) نائباً عن دمشق 1914، وعلى الرغم من مقاومة الاتحاديين له، فاز بأكثرية الأصوات، وخلال إقامته في اسطنبول كان يحضِّر لنيل إجازة من “معهد الحقوق” لم يحصل عليها، إذ اعتقله جمال باشا في صيف 1916 بتهمة التآمر على الدولة العثمانية، حيث تمت محاكمته، وكان معرّضاً لخطر الإعدام شنقاً كأقرانه من الوطنيين، ولكن تضافرت عوامل عدة لإنقاذه من حبل المشنقة، ونفي إلى اسطنبول.
عاد فارس الخوري إلى دمشق بعد انفصال سوريا عن الحكم العثماني، وفي 1919 عُيّن عضواً في مجلس الشورى الذي اقترح هو على الشريف فيصل تأسيسه، كما سعى مع عدد من رفاقه إلى تأسيس معهد الحقوق العربي، وكان هو أحد أساتذته حيث درّس فيه مادتي أصول المالية وأصول المحاكمات الحقوقية، وله ثلاثة مؤلفات في القانون هي: أصول المحاكمات الحقوقية، وموجز في علم المالية، وصك الجزاء. كما اشترك في تأسيس المجمع العلمي العربي بدمشق (المجمع اللغوي).
شارك في جميع الحكومات التي تمّ تشكيها في دمشق منذ انسحاب العثمانيين وحتى دخول الفرنسيين حيث تسلّم مهام وزارة المالية، وبعد دخول الفرنسيين انصرف إلى العمل في القانون والاقتصاد.
شارك فارس الخوري وعدد من الوطنيين في تأسيس الكتلة الوطنية، وكان نائباً لرئيسها، حيث قادت هذه الكتلة حركة المعارضة السياسية ضد الفرنسيين حوالي 20 عاماً. كما أسّس مع عبد الرحمن الشهبندر وعدد من الوطنيين “حزب الشعب” وكتب نظامه الداخلي، رداً على اجراءات السلطة الفرنسية التعسفية. وبعد اندلاع الثورة السورية الكبرى عام 1925 اعتُقِل فارس الخوري وآخرون ونفوا إلى معتقل أرواد حيث قضى هناك 76 يوماً.
كان نائباً لرئيس الوفد المفاوض في مفاوضات عام 1936 حيث عقدت معاهدة بين سوريا وفرنسا، وانتخب بعد ذلك رئيساً للمجلس النيابي السوري عام 1936 ومرة أخرى عام 1943، كما تولى رئاسة مجلس الوزراء السوري ووزيراً للمعارف والداخلية في تشرين أول عام 1944.
في عام 1945 ترأس الخوري الوفد السوري الذي كُلّف ببحث جلاء الفرنسيين عن سوريا أمام الأمم المتحدة، التي تم تأسيسها في العام نفسه، واشترك الخوري بتوقيع ميثاقها ممثلاً لسوريا كعضو مؤسّس. ولطالما كانت خطاباته ونقاشاته باللغة الإنجليزية في مجلس الأمن الذي أصبح رئيساً له في آب 1947محط اهتمام وتقدير، وخاصة تلك المتعلّقة بالقضية الفلسطينية والمطالِبة باستقلال مصر.
في عام 1954 طلب رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي من فارس الخوري تشكيل حكومة سورية، كانت وزارته الرابعة، ولكنها لم تستمر سوى بضعة أشهر، اعتكف بعدها في منزله بدمشق. محتفظاً بعضوية لجنة القانون الدولي بجنيف التي كان يذهب إليها سنوياً لحضور جلساتها.
وعند قيام الوحدة مع مصر لم يكن متحمّساً لها لاقتناعه أن التحضير لها لم يكن كافياً وكان يخشى أن انهيارها سيعيدنا “إلى نقطة ما قبل الصفر”!
في شباط 1960، أصيب فارس الخوري بكسر في فخذه الأيسر، وعانى بسبب ذلك آلاماً مبرحة لم تفارقه حتى وفاته، في مساء الثلاثاء 2 كانون الثاني 1962 في مستشفى السادات بدمشق.
اقرأ أيضاً: يوسف العظمة الشهيد الذي قاد السوريين في ملحمة صمودهم الأولى
مواقف ومآثر كثيرة لفارس الخوري
بعد أسبوعين من دخول الفرنسيين دمشق، في 8 آب 1920، أقيمت مأدبةٌ في قصر المهاجرين “القصر الجمهوري” حضرها وزراءُ ثاني حكومة فيصلية وعددٌ كبير من وجهاء المدينة، وأثناء المائدة قال الجنرال غورو متهكّماً: أهذا هو القصر الذي سكنه فيصل؟
فأجابه الخوري: نعم، يا صاحب الفخامة، هذا هو القصر الذي سكنه الملك فيصل، وقد بناه والٍ عثماني اسمه ناظم باشا، ثم حلَّ فيه جمال باشا، ثم الجنرال اللنبي، والآن تحلُّونه فخامتكم. وجميع مَن ذكرتُهم أكلنا معهم في القاعة نفسها، وكلهم رحلوا، وبقي القصر وبقينا نحن! فصمت غورو والحضور، ولم ينطق أحد حتى انتهاء المأدبة.
وفي عام 1921 حاول الفرنسيون إنشاء مشروع جرّ مياه الفيجة إلى منازل دمشق وفي إعطاء امتياز المشروع إلى شركة فرنسية، فعارض فارس الخوري هذا المشروع واقترح تأسيس مشروع وطني تكون فيه المياه ملكاً للأمة، وبعد هذه الحادثة بحوالي سنة اجتمعت لجنة من تجار دمشق وأغنيائها وبحثت موضوع تأسيس شركة تجارية لتوزيع المياه؛ لكن معارضة فارس الخوري كانت شديدة لأنه لم يشأ أن تكون المياه استثمارية بل عمومية ولذلك أسرع وقدّم في اليوم التالي مشروعاً وطنياً مفصلاً قائماً على أساس تمليك الماء للمباني، حيث يصبح من الحقوق الأساسية في العقار، وهو الذي اُعتُمِدَ ونُفِّذَ ومازال قائماً حتى الآن، وقد قاوم الفرنسيون هذا المسعى، لكنه نجح أخيراً، ودُشِّن المشروع في 3 آب 1932 باحتفال مهيب.
ولعل أشهر مواقف فارس الخوري ما فعله مع المندوب الفرنسي في الأمم المتحدة في الجلسة التي نالت بها سوريا استقلالها عام 1946، حيث دخل القاعة بطربوشه الأحمر وبذّته البيضاء قبل موعد الاجتماع الذي طلبته سوريا من أجل رفع الانتداب الفرنسي عنها، وجلس على الكرسي المخصص لفرنسا وسط دهشة الحضور، فدخل المندوب الفرنسي، ووجد “فارس بيك” يحتل مقعد فرنسا في الجلسة فتوجه اليه وبدأ يخبره أن هذا المقعد مخصص لفرنسا ولهذا وضع أمامه علم فرنسا وطلب منه المغادرة، ولكن الخوري لم يحرك ساكناً، بل بقي ينظر إلى ساعته حتى مرّت خمس وعشرون دقيقة كاد المندوب الفرنسي يصاب أثناءها بالجنون وحاول الاعتداء على الخوري.
وعند الدقيقة الخامسة والعشرين، تنحنح فارس بيك، ووضع ساعته في جيبه، ووقف بابتسامة عريضة تعلو شفتيه وقال للمندوب الفرنسي: سعادة السفير، جلستُ على مقعدك لمدة خمس وعشرين دقيقة فكدت تقتلني غضباً وحنقاً، سوريا استحملت سفالة جنودكم خمس وعشرين سنة، وآن لها أن تستقل!
التعليقات متوقفه