حلب تضيق بجثث موتاها – محمود عبد الرحمن

 

بمقابر حلب لن تجد مكاناً تقف فيه قرب القبر إذا أردت قراءة الفاتحة لصاحبه، ربما تفاجأ بوجود اسم شخص لا تعرفه على القبر الذي تعرفه، ازدحام المقابر دفع الحلبيين إلى استغلال أي مساحة متوفرة للدفن وحتى لإعادة استخدام القبور بدفن موتى جدد فيها.

تحولت معظم المقابر بحلب إلى خطوط إشتباك الأمر الذي منع الدفن بها
تحولت معظم المقابر بحلب إلى خطوط إشتباك الأمر الذي منع الدفن بها

مع الموت اليومي والمجازر المتكررة في مدينة حلب أصبحت القبور غير متوافرة ككل شيء في المدينة، ذلك بعد أن أصبحت المقبرة الإسلامية الحديثة وهي أكبرالمقابر بمدينة حلب على خط المواجهة مع قوات النظام وتحت مرمى نيران قناصيها ما جعل الوصول إليها مستحيلاً، كذلك الحال بالنسبة لمقبرة ميسلون (جبل العظام) والتي تقع منذ ثلاث سنوات على خط الجبهة الفاصل بين ثكنة هنانو وحي أقيول، كما أن كثير من قبورها تعرض للدمار نتيجة الاشتباكات والقصف المتواصل، كذلك الأمر بالنسبة لمقبرة “كرزدادا” في حي قاضي عسكر التي تعرضت بدورها لعمليات قنص من ثكنة هنانو ما أدى الى مقتل الترابي الذي كان يعمل فيها منذ عشرين سنة.

وحال انقطاع الطرق بين الريف والمدينة دون قدرة العائلات الريفية التي تسكن حلب على دفن موتاهم في مقابر قراهم وكان لسيطرة قوات النظام وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على مساحات واسعة من أرياف حلب الشرقية والشمالية والجنوبية دور كبير في عدم قدرة أبناء الريف المقيمين في المدينة على التوجه إلى الريف لإقامة جنائز موتاهم هناك.

يلجأ سكان المناطق الخاضعة لسيطرة الثوارإلى بعض المقابر التي مازالوا يستطيعون الوصول إليها كمقبرة قاضي عسكر ومقبرة القطانة التي كانت إدارتها قد بدأت بترحيلها إلى المقبرة الإسلامية الحديثة قبل انطلاق الثورة ما أتاح مساحات لحفر قبور جديدة فيها.

المقبرة الأكبر المتبقية في مناطق سيطرة الثوار بمدينة حلب هي مقبرة الشيخ جاكير المؤلفة من ثلاثة أقسام وهي تدار مع معظم المقابر المتبقية بحلب من قبل مكتب دفن الموتى التابع للمجلس المحلي للمدينة عن طريق “الترابيين” (عمال المقابر) الذين يعملون في هذه المقابر منذ سنين.

تحدثت الغربال إلى “عمر الشياح” الذي يعمل ترابياً بأحد أقسام مقبرة الشيخ جاكير بحلب مع اثنين من أولاده، يقول الشياح: “الجبانة لا ترد ميت، عندما يأتينا ميت نقوم بدفنه في قبر أحد أقربائه إن وجد أو نحفر له قبراً جديداً في المساحات الصغيرة المتبقية بين القبور ونضطر غالباًإلى تضييق عرض القبر إلى 60 سم بدلا من 80 سم كي لا نتعدى على حرمة القبور المجاورة”.

يشير الترابي أثناء حديثه إلى أنه لم يستقبل أي حالة وفاة طبيعية منذ زمن طويل فيقول: “لا يصلنا إلا شهداء الاشتباكات و القصف وكثيراً ماتكون عائلات بكاملها حيث لا يبقى منهم من يدفع تكاليف الدفن التي تتراوح من 9000 ليرة سورية إلى 12000ليرة للقبر الواحد، يتم اللجوء حينها إلى مكتبدفن الموتى في المجلس المحلي بحلبوالذي يقوم بتجهيز قبور جماعية في حالات المجازر وليدفن الموتى فيها ردماً دون بناء اللحد”.

وتذهب رسوم الدفن في حال تم دفعها إلى مكتب دفن الموتى حيث يحصل الترابي على 8000 ليرة بينما يذهب الباقي ثمنا للكفن و تكاليف الدفن الأخرى.

يمضي الترابي عمر الشياح وأولاده أوقات فراغهم في إصلاح شواهد القبور المتضررة نتيجة القصف ويحرص الشياح على بقاء اسم صاحب كل قبر واضحاًفيقول: “قد أموت غداً و يأتي بعدهاقريب أحد الموتى المدفونين هنا لزيارته يجب أن يجد قبر قريبه بدون مساعدتي”.

لم تتمكن الغربال من التحدث إلى ترابي المقبرة المجاورة “أبو صلاح” الذي بدا مستأنساً بالأموات أكثر من الأحياء، قال “أبو صلاح” جملة واحدة على عجل قبل أن يدير ظهره: “ماذا أقول؟ يأتون إلى المقبرة في الليل ومعهم شهيد ولعدم توافر القبور يجبرونا على فتح أي قبر لدفن شهيدهم فيه”.

مقبرة ميسلون (جبل العظام) تكتظ بقبورها
مقبرة ميسلون (جبل العظام) تكتظ بقبورها

تتوزع معظم المقابر العاملة بحلب حالياً في أحياء حلب القديمة امتداداً من حي كرم الجبل إلى حي الكلاسة أما في الأحياء الشرقية والغربية من المنطقة الخاضعة لسيطرة الثوارفيبدو الوضع أكثر سوءً حيث لا مقابر قديمة ليتم استغلالها،يقول المحامي ابراهيم هلال رئيس مجلس حي هنانو للغربال “كانت معظم هذه الأحياء تعتمد على المقبرة الاسلامية الحديثة التي أصبحت على خط الاشتباك، لم يكن أمامنا سوى البحث عن مساحات واسعة لدفن شهدائنا وكانت الحدائق هي الأنسب”.

وكانت ظاهرة الدفن بالحدائق قد انتشرت مع بداية الحراك المسلح في الثورة السورية، حيث دفعت الحرب بكثير من الناس إلى دفن موتاهم بالحدائق بسبب انقطاع الطرق نتيجة الاشتباكات في معظم مناطق حلب، “أصيب الناس بالذهول في بداية الأمر ونتيجة شعورهم بالصدمة لم يكونوا قادرين على التحرك أو التفكير بحلول أخرى سوى الدفن بالحدائق” حسب ما يقول ابراهيم هلال للغربال.

كانت حديقتا السكري وصلاح الدين أول الحدائق التي تحولت لمقابر مستحدثة، امتد الأمر فيما بعد إلى مناطق أخرى كحديقة الصاخور التي تضم حالياً نحوخمسين قبراً و حديقتي هنانو التي تضمان ما يزيد عن مئة قبر.

تشرف المجالس المحلية في الأحياء على هذه المقابر المستحدثة في الحدائق وتتكفل بمصاريف الدفن فيها بشكل كامل بينما تشرف مؤسسة الطبابة الشرعية على مقبرة حديقة السكري والتي تعد الأكبر بينها، والتي ضمت كثيرا من شهداء المجازر كمجزرة شهداء النهر وغيرها.

لم تعد أجواء المدينة محتملة حسب تعبير خيرالدين من مجلس حي طريق الباب الذي يقول للغربال: “لم يكفي الموت الذي يلاحقنا في كل مكان،أصبحنا نرى القبور حيثما ولينا وجوهنا حتى البيوت والحدائق وأماكن لعب الاطفال تحولت إلى مقابر، لا بد من إيجاد حل لذلك”.

هذا الحل لا يبدو متوفراً حالياً حسب قول علي مروح”أبو أحمد” رئيس مكتب دفن الموتى في حلب القديمة الذي قال للغربال: “سعينا إلى تحويل قطعة أرض قرب منطقة كرم حومدإلى مقبرة لكن سرعان ما تحولت المنطقة إلى خط اشتباك وليس لدينا أرض بديلة حالياً”.

الدفن في الحدائق ليس وحده ما يقلق “أبو أحمد” الذي يوضح: “كثيراً مايتم الدفن بشكل عشوائي خاصة في حالات المجازر حيث تصل إلينا أكوام من الأشلاء البشريةلنقوم بدفنهم في مقابر جماعية دون أن نتمكن من تحديد أسماء القتلى على وجه الدقة ما سيؤدي مستقبلاًإلى ضياع القبور،أما القبور في الحدائق فيمكن أن يتم نقلها إلى أماكن أخرى عندما تنتهي الحرب”.

يحاول مكتب دفن الموتى التابع لمجلس مدينة حلب تقديم المساعدة لكن إمكانياته محدودة جداً، يقول أحد أعضائه للغربال: “نحاول تأمين القبور للأشخاص الغير قادرين على دفع تكاليفها لكن امكانياتنا محدودة فكل الطاقم المسؤول عن الحفر التابع لنا هو عبارة عن ثلاثة أشخاص فقط”.

 الحال نفسه في مناطق سيطرة النظام فقد تحولت المقبرة الوحيدة الموجودة فيها والتي كانت مخصصة لأبناء الطوائف المسيحية إلى منطقة اشتباك ما دفع حكومة النظام إلى تخصيص قطعة أرض قرب المدينة الجامعية للمقبرة المسيحية المؤقتة وهي تضم حالياًأكثرمن 1450 قبراً لأبناء مختلف الطوائف المسيحية.

كما أقدمت قوات النظام على دفن عدد من قتلاها في الحديقة العامة والحدائق الاخرى كحديقة الخالدية وحديقة ميسلون وحديقة المعري نتيجة وقوع المقابر الأساسية في حلب تحت سيطرة الثوار وصعوبة نقل قتلاه إلى مدنهم وقراهم، ما لبثت أن تحولت هذه الحدائق إلى مقابر عامة قبل أن يستحدث مجلس مدينة حلب التابع للنظام مقبرة كبيرة في منطقة المشاع بين حي حلب الجديدة وبلدة المنصورة غرب حلب.

تحولت حديقة هنانو بحلب من مكان للعب الأطفال إلى مقبرة
تحولت حديقة هنانو بحلب من مكان للعب الأطفال إلى مقبرة

التعليقات متوقفه