حفل عشاء على شرف الأشباح – عبدالله شاهين

سأعترف بالبداية بحقيقة أني لا أشعر بأي شوق لسوريا بالرغم من كوني شخصاً متسامحاً مع عواطفي وبالرغم من كوني إنساناً شديد الحنين إلى الماضي، حنيني هذا يقتصر على شوقي لطفولتي وأصدقائي وبعض الألعاب والمواقف العزيزة في نفسي. فمع حقيقة أنني مغترب سوري عتيق خرج من سوريا وعمره دون العام إلا أنني لعبت وكبرت وقدت دراجتي الأولى وسيارتي الأولى وعزفت موسيقاي الأولى في أجمال أيام سنواتي المبكرة في مسقط رأسي بمدينتي حمص، كل ذلك لا يجعلني حمصياً كاملاً إلا أنه توجد بيني وبين تلك الجغرافيا عِشرة طويلة.

ليست مناسبة الحديث اليوم عني؛ بل هي للحديث عن منشورات الحنين الطويلة والعديدة التي تتغنى بما كانت عليه سوريا قبل الحرب، للإنصاف تمكن الكثيرون من تخطي خطاب “كنا عايشين وماشي حالنا” إلى خطاب بديل فحواه ليست أكثر فداحة من سابقه، انتقل الخطاب الذي كان يضع “ذاتهم” و”عيشتهم” في المركز لوضع سورية في مركز دائرة الحنين.

لن أجمل كلماتي في التعبير عن سخطي من أولئك الذين يتضورون حنينا لسوريا الماضي التي كانت فيها “سندويشة الفلافل” بخمس ليرات وبسكوتة الحلوين بخمسة ومخالفة المرور بخمسة وعشرين ورقة، ومن ذكريات أولاد النعمة وأبناء الذوات، ذكريات المطاعم الفارهة والمقاهي الحضارية التي عايشوها في العشر سنوات الماضية، ذكرياتهم ليست مدعاة فخر ولا علامة تحضر؛ بل لعلها كانت إحدى العلامات الأخيرة للكارثة التي رأينا وتجاهلنا قبل وقوعها.

في صور سوريا القديمة يطالعني منظر فندق “فور سيزونز” يتمختر في سماء تغطي مدينة الأسى، شوارع فارغة منارة في الليل، صور لمقاهي على الأرصفة تحاول تقليد مثيلاتها في أوروبا بشكل يدعو للسخرية. كل ما نراه من صور سوريا القديمة مرتبط بالحجارة والأضواء. والمفارقة هنا أن سورية قبل الثورة؛ شئنا الاعتراف أم أبينا؛ لم تكن سوى مجموعة من الحجارة التي تهوى إليها القلوب.

لم يعبأ أحدنا بأن يسأل نفسه فيما إذا كان نادل مطعم “جيميني” في دمشق قادراً على أن يصطحب زوجته أو أمه يوماً ليدعوها على العشاء الذي يقدمه لنا مقابل أجره الهزيل، قليلون هم من تساءلوا عن الطفل المزعج بائع العلكة الذي لا يتوقف عن إزعاج المارة بطلبه إليهم أن يشتروا منه، لماذا هو خارج أسوار المدرسة؟ ولماذا يسمح أهله بذلك؟ وتلك البسكوتة “أم الخمس ورقات” كم يتقاضى العامل الذي ينتجها لنا بهذا الثمن البخس؟ لماذا كنا نتجاهل تلك الأشباح التي تطوف حولنا في الخلفية؟ ماذا عن الشياطين التي كانت تتقافز أمام أعيننا فتسرق الأنظار والأهواء؟ ذلك اللص الكبير الذي ينهي سرقاته اليومية لينام في قصر كتب على أبوابه العالية “هذا من فضل ربي”، وجاره الذي يجمع وجهاء المدينة على موالد ويتحدث الناس عن كيف “الله فتحها عليه وأكرمه” من غامض علمه، ودروس الدين التي كانت توصد أبوابها أمام النساء الفقيرات لا لشيء إلا لفقرهن.

لن أزاود عليكم؛ لا أستطيع! فقد كنت مثلكم، تصورت مع من “فتح الله عليهم” و تأففت من دناءة الأشباح التي كانت تشوه منظر الحاضر الذي عشته مثلكم تماماً، ومثل كثير منكم رأيت الكثير في محيطي ولم أفعل شيئاً. رأيت الضرب والذل والمهانة والأذى في “سوريا الله حاميها”. شاهدت بأم عيني أماً لأيتام تطبخ الحجارة على طعام الإفطار مع بعض البرغل القذر. رأيت العجوز السبعيني يأكل من صناديق القمامة ويعبي الزوادة ليطعم باقي العائلة، كل ذلك في “سوريا بلد الخيرات والليرات”. لقد شاركت مثلكم في جريمة الصمت، لقد كنت أحد مظاهر المرض مثل أي منكم، وليس لي أن أزاود على أحد في ماضيه.

لا أشعر بأي شوق لسوريا التي عرفت، ولا أذوب في الحنين حين أرى صور الحجارة الملونة والأماكن القديمة، بل لن أخفي تلذذي برؤية تلك المقاهي الفارهة والمصانع المستعبدة وهي رميم، لن أنكر شماتتي وأنا أرى الحجارة التي صورناها آلاف المرات تتبخر إلى الأبد، هي استحقاقات كان لابد أن يأتي يوم لسدادها، الأمر الوحيد الذي يلوع قلبي؛ هو أن الأشباح ذاتها هي من يدفع الثمن عنا مجدداً.

التعليقات متوقفه