طقوس “حفلات الزواج” ذاكرة شعبية غائبة – هبة عز الدين

يعتبر التراث الشعبي من أبرز معالم الذاكرة المجتمعية التي طالما حافظ عليها الشعب السوري، بدأت هذه الذاكرة تتلاشى شيئاً فشيئاً مع تواصل الحرب وضياع تلك الذاكرة بين موت أصحابها ونزوحهم.

لعل حفلات الزواج أو “الأعراس” كما يسميها السوريون، أحد أبرز حواضن الذاكرة الشعبية للإنسان السوري، فالعُرس هو نهاية خطوات حفظها السوريون وكانت محفوفة برائحة الحنّة ومطرزةٌ بخيطان ثوب العروس وهي ترد البئر لجلب الماء.

تتحدث أم صبحي، من منطقة معرة مصرين بريف إدلب، وهي سيدة تجاوز عمرها الثمانين عاماً، عن خطوات عرسها القديم من زوجها المتوفى أبو صبحي، قائلةً: عندما كنت صبيّة في سن الثالثة عشر كنت أذهب كل صباح مع صديقاتي من بنات الجيران لنملأ  الخابة، وهي إناء فخاري، من البئر الذي يبعد عن قريتنا كيلومتر واحد، في إحدى المرّات، كان محمد، الذي أصبح فيما بعد أبو صبحي، يحصد الأرض القريبة من البئر مع أهله، عندما اقتربنا منهم، لاحظت أن محمد كان يحملق بيّ، ذلك أنني كنت جميلة وممتلئة الجسم طويلة القوام، وأملك شامة على خدي الأيمن، علامة الحُسن الأهم في تلك الأيام الغابرة، لم أشئ أن أبادله النظرات فقد كان ابن عمي علي قد “سمى عليّ” أي خطبني مذ كنت طفلة.

بعد يومين أتت أم محمد لبيت أهلي، بحجة أنها تريد أن تخبز في تنور بيتنا بعد أن انهدم تنورهم، فطلبت مني أمي أن أساعدها في العجين والخبز، لاحظت أم محمد وقتها أنني كنت بارعةً في ذلك، حضنتني وقبلتني قبل أن ترحل، كانت تشتم رائحة عنقي وثيابي لتتأكد من مدى اهتمامي بنظافتي، في اليوم التالي زار بيتنا أبو محمد، و” طلب يدي” من أبي، لكنّ أبي رفض طلبه بحجة أنه من عائلة أخرى وأنني “مسمى عليّ” لابن عمي.

تواصل أم صبحي حديثها: “مضت الأسابيع، ووالدا محمد يترددان لبيت أهلي، وقد منعتني أمي وقتها من الذهاب للبئر كي لا يراني محمد، ونتيجة لإصرار والديّ محمد على خطبتي، طلب أبي من أبي محمد “كردان”، وهو طوق ثقيل مصنوع من الذهب، وثلاث ليرات ذهبية كمهر لي رغم أنّ مهري السابق من ابن عمي كان ليرة ذهبية واحدة ومحبس ذهبي فقط، لكنّ محمد من عائلة أخرى ولابد أن يدفع كل ما يملك حتى يستطيع أبي أن ينقض خطبتي من ابن عمي.

تقول أم صبحي: عندما علمَ ابن عمي علي بما حصل، غضب كثيراً وطلب من محمد أن يتصارعا في ساعة البلدة ومن يصرع الآخر ينالني، تمت المصارعة صباح اليوم التالي أمام “أوضة” عائلتي، وهي المضافة التي تجتمع فيها العائلة، وتمكن محمد من صرع ابن عمي علي، فأدخله أبي للأوضة من أجل قراءة الفاتحة وتحديد موعد الحنّة، وهي الحفلة التي تسبق العرس بيوم واحد ويتم فيها تقليد العروس بالذهب وتحنية يديها.

تخبرنا أم صبحي أنها لبست ثوب مخملٍ مطرز يوم التلبيسة (العرس)، ونثرت شعرها لتضع فوقه شرائط القصب، تقول أم صبحي: بعد صلاة العصر، اجتمعت النساء في بيت أهلها، وبدأن بالدق على” الدربكة”، كما أن أم محمد قامت بالرقص ببقجة الذهب وصحون الحنة، ثم قامت بنات الجيران بوضع الحنة على يدي أم صبحي، بينما كانت النساء الأخريات ينشدن بعض المواوويل حزناً على مغادرتها لأهلها وانتقالها لبيت آخر.

بعد ساعات من الحنّة حضر والد فاطمة (أم صبحي) وأعمامها وأخوتها بغية توديعها، لتنتقل إلى بيت عمّة محمد وتقضي الليلة فيها، كي تألف مكاناً غير بيت أهلها، ولا يكون لقائها مع محمد في البيت الجديد غريباً من نوعه، في تلك الأثناء بدأت أم محمد تهلهل قائلةً:

أويها يا أبو العروس ضفنا منزلك ضفنا… وعملت معنا معروف.

وملاعقك دهب وصحونك فضة….وعمرك طويل لا ينقص ولا يفنى.

فقامت عمّة فاطمة بالرد عليها قائلةً:

أويها وارفعي راسك ولا تفكري حالك ذليلة.

أويها عندك أبوك وأخواتك وعمامك ، كل واحد بيسوى قبيلة.

في اليوم التالي، ارتدت فاطمة الثوب الأبيض المصنوع من الحرير والساتان وسرحت شعرها، وقامت “سلفتها” بإزالة الشعر المتناثر حول حاجبيها ووضع القليل من الحمرة التي احتفظت بها منذ زفافها.

جلست فاطمة على كرسي خشب وقد وضعت بجانبها أوانٍ بلاستيكية صغيرة زرع فيها الريحان، وأتت أمها لتقف بجانبها، وتطلب منها أن تضع كلتا يديها فوق ركبتيها دون أن تحركهما، لتظهر الأدب والهدوء.

اجتمعت قريبات محمد، وبدأن يهلهلن قائلات:

أويها عاللعلي عاللعلعي..أويها  يا صبايا تجمعي.

أويها يا ليل طول طول.. أويها ويا شمس لا تطلعي.

أويها حصنتك بياسين.. أويها ويا زهر البساتين.

أويها يا مصحف صغير.. أويها  على روس السلاطين.

أويها يا صحن رز بحليب.. أويها كل ما بَرَد بطيب.

أويها كلنا أهلية.. أويها و ما في حدا غريب.

أويها طولك طول العلم.. أويها و حواجبك خط القلم.

أويها كنك شريف مكة.. أويها تتفتلي حوالي الحرم.

أويها صلوا على النبي.. أويها و زيدوا بصلاته.

أويها و يلي بيصلي على النبي.. أويها يطعمه زيارته.

في المقابل بدأت خالات فاطمة وبنات خالاتها يهلهلن قائلات:

أويها   يا صحن تين.. أويها   مجلل بالياسمين.

أويها   وعروستنا حلوة.. أويها   وما طبقت العشرين.

أويها  فزت العروس على حيلها.. أويها  وهر اللولو من ديلها.

أويها  وما تقولو عروستنا وحيدة.. أويها  في تنتين غيرها.

أويها  وطبخنا محشي.. أويها  على البلاط بيمشي.

أويها  ونحنا صبايا إدلب.. أويها  و يبلبقلنا كل شي.

بعد دقائق، استأذنت أم محمد جميع الحاضرات من أجل دخول ابنها محمد لييأخذ عروسه إلى بيت الزوجية، وعندما دخل محمد بدأت عماته يهلهلن:

أويها  يا عريس لا تعبس.. أويها  أفرد البقجة والبس.

أويها  شورابك عروق الريحان.. أويها  وسوالفها عروق النرجس.

أويها  ببيتنا رمانة.. أويها  حامضة ولفانة.

أويها  حلفنا ما منقطعها.. أويها  ليدخل عريسنا بالسلامة.

أويها  عريسنا يا واحد.. أويها  عروستنا يا تنين.

أويها  واللي ما بيصلي عالنبي..أويها  يعدم العينتين

أويها  يا عريس ريتو مبارك.. أويها  يا عريس السبع بركات

أويها  وإن شاء الله لما بيجيك صبي.. أويها  وبتكمل الفرحات

تختم أم صبحي حديثها بموال من يوم عرسها تسعفها ذاكرتها به تستذكر تلك الأيام وتذكر الحاضرين بحقيقة أن الحرب الجارية في سوريا لم تدمر فقط العمران وتقتل الإنسان وتحرم السوريين من أفراحهم فقط، بل إنها حرمت الأجيال القادمة من تراثهم وتقاليدهم.

فن الحنة
رسم الحنّة على يدي العروس من تقاليد الأعراس السورية
كردان
الكردان، طوق ثقيل مصنوع من الذهب تلبسه المرأة

التعليقات متوقفه