صور المأساة السورية في أدب السجون – زينة عادل
لروايات أدب السجون تفاصيل لا تغادر الذاكرة، بل لعلها تهاجم أحلامك، يومياتك وردود أفعالك، قد تجدها قاسية ومكررة، ولكنك ستتفاجأ كلما قرأت كتاباً عن معاناة السجناء في سجون النظام السوري بمقدار الواقع المغيب عنك ومقدار الظلم الذي يواجهه السجين هناك.
أغلب الروايات التي تندرج تحت تصنيف أدب السجون السوري كُتبت من قبل سجين سياسي سوري سابق، فمرور الكاتب بتجربة السجن يضفي مصداقية واضحة على عمله الأدبي الروائي، قد يكتب السجين السياسي السابق روايةً لمواجهة النسيان، أو للتخلص من ذلك العبء الثقيل الذي تحمله أحلامه وذكرياته لتكون الكتابة متنفساً، ولكن في الحالات كلها فإن الكاتب يريد أن يوصل معاناته والظلم والذل الذي لحقا به لكل بيت سوري.
ليس بمستغرب أن يكون أدب السجون السورية الأشهر، بكل ما يحتويه من رعب وهلع لما عرف من وحشية وظلم هذا النظام وقمعه المرير، وسلطة أجهزته الأمنية على مدى عشرات السنين.
رواية “حمام زنوبيا” لـ رياض معسعس
رواية “حمام زنوبيا” للكاتب السوري المعارض الناجي من مجزرة سجن تدمر العسكري رياض معسعس، صدرت عن دار الجنوب للنشر في تونس، وأهداها كاتبها للشهيد محمد البوعزيزي.
تعكس الرواية صورة سوريا بدءاً من النكبة في عام 1948، وانتهاء بمجزرة سجن تدمر عام 1980، يقص الراوي حكاية نجاته من المعتقل، ويُرجِع الفضل في ذلك إلى فأر اخترق الجدار واكتشفه صدفة فراح يتبع خطاه مع رفيقه “أبو ثائر” ليوسعا من الثقب الذي دخل منه، هكذا يقدّم الروائي صورة سريالية للحياة في السجون السورية ولعبثيتها، فيتعلق السجين بأثر فأر لينجو من بطش السجانين.
يصور الكاتب في الرواية تجربته في سجن تدمر عن طريق بطل روايته “مالك حصيرة” الذي اعتقل على خلفية اتهامه بإخفاء كنز قديم وجدته باحثة فرنسية تعمل وأخيها لحساب أحد المسؤولين الكبار في قصر “الحير” الأثري قرب تدمر، لتشاء الصدف أن يلتقيها ويكون دليلها للمعالم التاريخية ويعيش معها الحب ما أوصله إلى غياهب سجن تدمر العسكري.
يمضي الكاتب في روايته بتصوير أروقة السجن وزنزاناته الرطبة المتعفنة، الرشاوي والوشايات، معاناة المساجين، بكاء المقهورين، أنين الجرحى وزفرات موت المشنوقين.
نجح معسعس في إيصال سيرة المسجونين بقالب أدبي يخرق قلوب القرّاء ويمسّ روحهم وإنسانيتهم. فعند الوصف القوي في الرواية، يقف القارئ متخبّط المشاعر، لا يقوى على تحديد موقفه من الظلم وانتهاك حقوق الإنسان، يقول معسعس في روايته: “ذات ليلة كان السجناء نياماً، تحرك أحدهم ويقع مكانه تحت فتحة التهوية، نهره الحارس وأمره ألا يتحرك وبال على رأسه، لم يجرؤ السجين على التحرك والبول يتساقط عليه من الشراقة”.
قدم للرواية الناقد التونسي، وعميد كلية الآداب بجامعة تونس، توفيق بكّار، وذهب في تقديمه لها إلى اعتبار هذا العمل الأدبي “تغريد طير في الفضاء طليق يشدو للبعث بعد الموت وبعد عناء الأسْر بالحرية البِكر”، ثم يقول: “من هول وويل هذا الكتاب، على النفوس قاس لا يحدثها، أكثر ما يحدثها، إلا بأسود مرعب كثقل الكابوس في ليل عناء طويل، نكد عيش وتشريد شباب ومظالم وكم أفواه، ورشاوى تبتز، ووشايات تكيد، وشجون وسياط عذاب، وأرواح تزهق جملة وتفصيلاً”.
رواية “خمس دقائق وحسب” لـ هبة الدباغ
“وقتها ارتد بي البصر إلى دمشق عام 85 وعدت بالذاكرة إلى ليلة رأس السنة في بيتنا بالبرامكة قبل تسع سنوات بالتحديد، ليلة اصطفت المخابرات على طول الشارع في منتصف الليل… وسألني رئيسهم أن أذهب معه خمس دقائق وحسب وانتزعوني من الحياة تسع سنوات كاملات دون أعرف سببا لذلك إلى اليوم”!
بهذه الكلمات تلخص هبة الدباغ مأساتها في روايتها “خمس دقائق وحسب”، هبة الفتاة الحموية التي اعتقلت وسجنت تسع سنوات كرهينة عن أخيها المنتسب لتنظيم الأخوان المسلمين.
يغوص القارئ وهو يقلب صفحات الرواية بقصص شتى لنساء وأطفال ساقهم النظام السوري إلى السجون دون أي مراعاة أو شفقة ودون أي ذنب أو تهمة.
تسرد لنا هبة بتفصيل بارع دقيق معاناة المعتقلات، دموعهن، مرضهن وجوعهن، تحكي إضرابهن عن الطعام لأيام طويلة ولعدة مرات للضغط على السجانين لتلبية طلباتهن، لعبُ السجانين بمشاعرهن والكذب عليهن مئات المرات بصدور قرار الإفراج، عاطفتهن الجياشة عندما يرين طفلاً أو حتى قطة، منعهن من رؤية أقربائهن لسنين وسنين، لا يملك القارئ إلا أن يبكي وهو يرى ردة فعلها عندما تعلم بخبر مقتل أهلها جميعاً في أحداث حماه وهي تقول أن الله أحبهم فاصطفاهم للشهادة، فلماذا علي أن أحزن!
لم تحاول الكاتبة استجرار شفقة القارئ، إنما أرادت فضح النظام وفعائله، بل لعلك تستغرب قوتها ومثيلاتها بالسجن، وتراهن أقوى من الرجال في بعض المواقف، ويحسب لها جرأتها في توثيق تجربتها وعذاباتها.
تميزت الرواية بسرد دقيق لقصص النساء وتفاصيلها وأسماء المحققين، تميزت الرواية بسرد سلس غلبت المأساة على نمطيته التقليدية.
لم تستعمل الكاتبة أي نوع من أنواع الشتائم والألفاظ السوقية التي طالما يستخدمها السجانون الأمر الذي يمكن اعتباره قد أفقد الرواية جزءاً من مصداقيتها، بعد قراءة الرواية تحس بقيمة الهواء النقي، الماء، الطعام النظيف.. الدواء.. الضوء.. والعديد من النعم التي لا تحصى والتي تحدثت الكاتبة عن ألم فقدها في المعتقل!
رواية “القوقعة” لـ مصطفى خليفة
حازت هذه الرواية شهرة كبيرة، حتى قيل إنها ظلمت ما قبلها وما سيأتي بعدها من كتب أدب السجون، يحكي الكاتب تجربته الموجعة في سجن تدمر، فينسج قصة شاب مسيحي اعتقل وسجن بتهمة الانتماء للأخوان المسلمين، استطاع خليفة بحكم عمله كمخرج سينمائي قبل الاعتقال أن يصور مشاهد التعذيب كما لو كان يروي فيلماً سينمائياً، لذلك يصعب على القارئ أن يخرج هذه المشاهد من مخيلته.
لن تستطيع نسيان الرجل الحلبي الذي أُعدِم أولاده الثلاثة دفعة واحدة، الضرب كل يوم ومع كل مخالفة 500 جلدة، تتملكك الدهشة وأنت ترى السجناء الأطباء يجرون عملية استئصال زائدة دودية بإمكانيات بسيطة استنبطوها من طعامهم وحاجياتهم، تصرخ لانتحار صديقه بطل الرواية “نسيم” بعد خروجه من السجن، تنهمر دموعك وأنت تراه يصلي الجنازة ويقرأ الفاتحة عند قبر أبويه بعد الإفراج عنه، دون أن تنسى القوقعة التي بناها لنفسه بعد أن قاطعه كل السجناء ذوي التوجه الإسلامي باعتباره ملحداً بسبب توجسهم منه وخوفهم من أن يكون جاسوساً.
“تقف السيارة عند إشارات المرور، أنظر إلى الناس، أتفحص وجوههم، ما هذه اللامبالاة، ترى كم واحد منهم يعرف ماذا جرى ويجري في السجن الصحراوي؟ أهذا هو الشعب الذي يتكلم عنه السياسيون كثيراً؟ يتغنون به.. يمجدونه.. يؤلهونه؟ ولكن هل من المعقول أن هذا الشعب العظيم لا يعرف ماذا يجري في بلده؟ إذا لم يكن يعرف فتلك مصيبة، وإذا كان يعرف ولم يفعل شيئاً لتغيير ذلك فالمصيبة أعظم”!
بهذه الكلمات يصف خليفة لحظات خروجه من السجن الذي أمضى فيه نتيجة تقرير رفع عنه عندما كان في إحدى السهرات بباريس واصفاً صوت الرئيس بالتيس ورأسه بالبغل 13 عاماً..!
بعد قراءتك للرواية وغوصك فيها تجتاحك العديد من الأسئلة، ممَ خُلِق هؤلاء الجلادون، من أين أتوا بكل هذا الخلق والإبداع في صنوف التعذيب؟ لم كل هذا الظلم؟ ماذا يحدث الآن في السجون بعد أن تجرأ الشعب بأكمله ووقف بوجهه وأعلن رفضه له؟
لا تعود تستغرب عندما تجد أن معظم المعتقلين قتلوا تحت التعذيب، والذين كُتِبت لهم فرصة النجاة منه؛ بقي السجن داخلهم لم يخرجوا منه، لتجدهم ينتحرون أو يسلكون سلوك التطرف، بعد أن قتلت تلك التجربة كل بذرة خضراء في نفوسهم.
قلّة قليلة استطاعت أن تتغلب على كل ذلك لتخرج بكتب تسرد تلك المآسي وتصف لنا كل تلك القسوة ولتبث قول جبران خليل جبران: “قل للرئيس إذا مررت بسجنه.. أن السجون معاهد الأحرارِ”!
التعليقات متوقفه