حكاية سورية – حكاية منشق عابر للحدود – فريق الغربال

حكاية منشق عابر للحدود

فريق الغربال

 

قبل الثورة بحوالي ستة أشهر، التحق ابن قرية جرجناز عبد القادر دغيم، الحائز على إجازة في اللغة العربية، بالخدمة العسكرية في جيش النظام، ضمن “اللواء 38 دفاع جوي” في محافظة درعا. لم يفلح في الانشقاق من المرة الأولى، وسجن بعدها لأشهر، لكنه أفلح في المرة الثانية، وانضم لكتيبة “درع الوطن” التابعة للجيش الحر، والعاملة في ريف درعا الشرقي.

عبد القادر كان يتابع ما جرى في تونس ومصر وليبيا واليمن، وكان يتوقع أن يحدث ذلك في سوريا، ولم يكن ساذجاً ليصدق مزاعم النظام بأن الثوار إرهابيون، أو مرتبطون بإسرائيل أو بغيرها، بل كان مدركاً لما يحدث، وغالباً ما كان يقوم بتوعية رفاقه الذين يصدقون مزاعم النظام.

يقول عبد القادر: “كانوا يقولون لنا إنه لا توجد ثورة.. لا توجد مظاهرات، وإنما هي مؤامرة من بندر بن سلطان.. من إسرائيل.. من القاعدة.. وكنت أقول لرفاقي لا لا.. المتظاهرون شباب منا لهم مطالب، وهم غير تابعين لأحد”.

ساعد عبد القادر أربعة من رفاقه على الانشقاق بسلاحهم، وعندما أراد ان يلتحق بهم اكتشف أمره.

يقول: “لم أكن حذراً.. لم أكن حريصاً على السرية عند التواصل مع الجيش الحر.. لم أكن مبالياً.. ولذلك اكتشفوني”.

بعد ذلك، اعتقل عبد القادر وتنقل بين عدة مفارز وأفرع للمخابرات الجوية بين درعا وريف دمشق، وبالرغم من قسوة التحقيق وشدة التعذيب فقد ظل عبد القادر صامداً وأنكر كل شيء، ولم تتمكن المخابرات من إثبات أي شيء يدينه حسب تقاليد النظام.

يقول: “كانوا يسألونني لماذا اتصلت بهم؟ أي بالثوار.. كيف أمنت انشقاق الشباب؟.. ويتهمونني بالخيانة، والتحريض على الطائفية، والتواصل مع إرهابيين، وتشكيل إمارة إسلامية.. ولكني أنكرت كل ذلك”. ويضيف: “تمتّعت بثبات في التحقيق.. كنت أقول لهم: هم كانوا يتصلون بي، ويحرضونني، ويضغطون علي، وأنا رفضت وأغلقت الهاتف بوجههم”.

بعد انتهاء التحقيق لدى المخابرات الجوية، حول عبد القادر إلى القضاء العسكري في دمشق، ولأن المحققين لم يتمكنوا من إثبات أي شيء عليه، عاد إلى مكان خدمته (اللواء 38) بريئاً، بعد نحو أربعة أشهر ذاق فيها أقسى أنواع التعذيب من “ضرب وشبح وتعذيب بالكهرباء” وغير ذلك، ورأى بعينيه كيف يموت معتقلون على أيدي رجال المخابرات بدم بارد!

بدون عنوان-2

يقول: “أنا شاهد على تصفية خمسة شبان من قرية كفرشمس من آل السعدي، وطفل عمره 16 عاماً من قرية طفس اسمه عبد الناصر الزعبي، في فرع المخابرات الجوية في درعا، حيث قام مساعد في ذلك الفرع من مدينة مصياف بتعذيبهم بالكهرباء حتى الموت”.

لم يكن مرحباً بعودة عبد القادر إلى اللواء 38 من قبل قيادة اللواء، التي لم تكن تنظر إليه بارتياح، وتشعر أن هذا الشاب يمثل خطراً على اللواء، وبالتالي عرضت عليه النقل إلى حيث يشاء، لكنه رفض.

يقول: “رفضت، لأنني لم أكن أفكر سوى بالانشقاق، وأخشى إن وافقت أن أنقل إلى منطقة لا أعرف جغرافيتها وتضاريسها وناسها، فيصعب علي الانشقاق”.

بعد ذلك، نبذته قيادة اللواء ومنعته من القيام بأي نشاط.

يقول: “منعوني من حمل أي سلاح.. منعوني من الحراسة.. حرموني من الخليوي.. كانوا يخافون مني.. حرموني من كل شيء”.

بقي عبد القادر على هذه الحالة لمدة 11 يوماً، ثم تمكن من التواصل مع الجيش الحر، وكانت النتيجة الانشقاق مع اثنين من رفاقه من محافظة الحسكة.

يقول: “بالرغم من أنني كنت قد تواصلت مع الثوار قبل اعتقالي، وساعدت البعض على الانشقاق، فإن ضميري لم يكن مرتاحاً.. لم يرتح ضميري إلا بالانشقاق”.

شارك عبد القادر مع كتيبة “درع الوطن” في معركة “عامود حوران” التي بدأت في شهر كانون الأول/ديسمبر عام 2012، وأصيب في رأسه، بشظية من قذيفة دبابة، أثناء مهاجمتهم لكتيبة تسليح تابعة للنظام في بلدة بصرى الحرير.

تلقى عبد القادر علاجاً شكلياً في المستشفى الإسلامي في عمان “المدعوم من قطر”. وبطريقة يصفها بـ “المخزية” تم نقله من قبل الأردنيين إلى مخيم الزعتري بعد أن رفعوا لقطر عدة فواتير بعمليات جراحية معقدة لم يجرى منها شيء! ليمضي فترة نقاهة هناك امتدت لنحو شهرين.

أحدثت الإصابة لدى عبد القادر فقدان ذاكرة مؤقت، ظل يلازمه طوال فترة النقاهة.

يقول: “نسيت كيف أصبت؟!.. كنت أظن أنني أصبت بالقصف، بينما كنت أساهم في إسعاف الجرحى المدنيين نتيجة قصف بلدة الكرك حيث مقر كتيبتنا.. لا أعلم من أفهمني ذلك.. وبأية طريقة أفهمني”. ويضيف: “كنت أعتقد أنني على اتصال دائم مع أهلي، وخاصة مع أخي في الكويت، وأنهم يعلمون بحالي وبإصابتي.. ثم تبين لي فيما بعد أن ذلك وهم، وأنهم لم يكونوا يعلمون بحالي، حتى أن بعضهم كان يظن أنني استشهدت، نتيجة لعدم اتصالي بأحد منذ ليلة ما قبل الإصابة، التي أخبرت فيها أخي بأنني ذاهب غداً إلى المعركة”!

بعد أن تعافى، عاد عبد القادر إلى كتيبته، وشارك في عملية تحرير اللواء 38 الذي انشق منه، وذلك في شهر آذار/مارس 2013. ومن ثم عاد إلى قريته بعد ضغط وإلحاح من أفراد أسرته وأقربائه الذين كانوا يفضلون أن يعود إليهم وينضم إلى الجيش الحر في ريف إدلب الجنوبي، من أجل أن يظل قريباً منهم، ويطمئنوا على حالته، ويكونوا قريبين منه.

يقول: “كان أخي يريد مني أن أعود إلى جرجناز، ويقول لي: ما الذي يضمن لي أنك لست مشلولاً أو أعمى أو عليلاً أو معاقاً.. أريدك أن تعود إلى القرية لنطمئن عليك”.

رحلة العودة إلى جرجناز كانت شاقة، وعلى مراحل ثلاث، فمن درعا إلى ريف دمشق أولاً، ثم من ريف دمشق إلى دير الزور ثانياً، ومن ثم من دير الزور إلى إدلب ثالثاً.

يقول عبد القادر عن هذه الرحلة: “استغرقت نحو أسبوعاً.. مشيت فيها على قدمي مدة يوم ونصف، مسافة ثمانين كيلومتراً تقريباً، من بصرى الحرير مروراً بمنطقة اللجاة في ريف درعا، إلى منطقة بير القصب في ريف دمشق، ونمت ليلة هناك، ومن ثم ركبت في سيارة إلى البوكمال، وبعد أن أمضيت يومين عند صديق لي هناك، ركبت من هناك إلى قريتي مع أشخاص يتاجرون بالدخان والمازوت”.

سنة كاملة استغرقت رحلة انشقاق عبد القادر قضى منها تسعة أشهر في كتيبة للثوار بدرعا وثلاثة أشهر في الأردن، واليوم يعيش في بلدته بانتظار الخلاص حتى يعود لاستكمال الدراسات العليا التي كانت طموحه الأول!

التعليقات متوقفه