مخيم دار الرعاية: دون رعاية – تحقيق وتصوير: مروان الحميد وعلي ناصر
مخيم دار الرعاية: دون رعاية
تحقيق وتصوير: مروان الحميد وعلي ناصر
في أقصى شمال محافظة إدلب، تتوضع خيامهم المتعبة من مجابهة الطبيعة، ولولا وجود أشجار الزيتون التي تخفّف غضب ريح عاتية لسقطت، في مشهد لا يشبه المخيمات بشيء، بل يذكر بمعسكرات الاعتقال النازية إبان الحرب العالمية الثانية!
تقودك إلى المخيم طريق ترابية، تجبرك على الوقوف دقيقة بعد الوصول وربما أكثر، لا لتجول المكان بناظريك؛ إنما حتى ينقشع الغبار، فلا تتعثر بطفل تعلم الحبو منذ مدة قصيرة، أو عجوز يؤدي صلاته جالساً، أو ربما معاقٍ تركه أخوه ليحضر له رشفة ماء.
التقينا بمدير المخيم السيد يوسف عتال، وشرح لنا كيف تم إنشاء المخيم، فبعد هروب الناس من قصف الطائرات، ولجوئهم إلى الحدود، مفترشين الأرض وملتحفين السماء، فارين بأرواحهم، وبعضهم لم يبقَ له بيت يأويه، قرّرنا إنشاء المخيم، وهو مؤلف من 110 خيمة مقدّمة من منظمة أطباء بلا حدود، ويضم هذا المخيم 150 عائلة ذات حالات إنسانية تتطلب الرعاية، مثل المسنين والأيتام والمعاقين والأرامل وذوي الأمراض الشديدة، لكن المخيم بحالة مزرية، فليس له من الرعاية سوى الاسم، فالخيام صيفية وقابلة للاشتعال بأية لحظة ولأدنى سبب، كما أن حرارة الشمس تتلفها، وهي دون أثاث، ودون أي شيء، مجرد “جادر” وفوقه ستار، وتضم كل خيمة عائلتين أو أكثر، ولا يوجد فيها أي من مرافق الحياة، فلا كهرباء هنا، أما الماء فهي ثلاثة صهاريج يومياً لا غير، وأهم مرافق الحياة غير موجود “الصرف الصحي”، الذي اقتصر على حفرة كبيرة حفرت على نفقة اللاجئين، وهذا بحد ذاته يعد سبباً للأمراض التي لا تنقص ساكني المخيم. العناية الطبية معدومة، فلا يتواجد في المنطقة أي شكل من أشكال الخدمة الطبية، والنقطة الطبية التي أنشئت هناك لم تباشر عملها حتى الآن! ويقوم الناس بالتداوي على نفقتهم الخاصة، مما اضطرهم لبيع ممتلكاتهم للتداوي بها، وأصبح النزلاء هنا يصابون بأمراض مختلفة كالإسهال والحمى وضربات الشمس والتهاب الكبد وحبة السنة هذا بالإضافة لما يعانيه سكان المخيم من الأمراض المزمنة أصلاً، ناهيكم عن شبح شلل الأطفال الذي بدأ يلوح بالأفق لعدم تلقيح الأطفال، وحالات ضمور الدماغ بسبب تعسر الولادات، وللأسف حدثت حالتي وفاة بسبب قلة العناية وسوء الأوضاع المعيشية والغذائية. وأمام قلة الضروريات يخجل الشخص من ذكر الأقل ضرورة والذي قد يبدو ترفاً مع وضع المخيم كالمدرسة والمسجد.
يروي لنا مدير المخيم رحلته في طلب العون واستجداء عواطف المنظمات الإنسانية ومسؤولي الإغاثة الذين اعتادوا على (رشرشة الوعود)، ليعود خالي الوفاض محمّلاً بديون رحلته إلى تركيا!
أما الغذاء والذي أفرد له السيد يوسف فصلاً لوحده بعد أن أشعل سيجارته، فقد قال: (يوزّع نصف رغيف يومياً لكل شخص! ويفترض بنصف الرغيف هذا أن يشبعه لثلاث وجبات وطبعاً الوجبات على نفقتهم الخاصة! أما السلال الغذائية فوزّعت نصف سلة منذ تسعين يوماً)، وختم متحدياً كل من صمّ أذنيه عن معاناتهم أن يستطيع الجلوس في هذا المخيم لعشر دقائق فقط.
تجولنا في المخيم، الذي امتلأ بأطفالٍ حفاة، بعضهم تجمّع الذباب حول فمه محاولاً أن يخطف منه فتات خبز جفّ على شفتيه، وبعضهم يموج تحت أشعة الشمس، وهو ما أثار استغرابنا، ولكنه سرعان ما زال عندما عرفنا نوعية الخيام، أما العجزة فقد أسندوا ظهورهم إلى أشجار الزيتون، مسدلين بعض الستائر لتحميهم من الحرارة والبرودة، وعلى مقربة منا جلست مريم اليوسف وطفلها في حجرها محاولاً امتصاص بضع قطيرات حليب من ثديٍ يناضل كيلا يجف، وقد تحلّق حولها أطفال كُثُر علمنا بعد ذلك أنهم أطفالها، وخلفها رجل مسن مرتعش الأطراف، وزوجة تجلس عديمة الحيلة والأمل.
تقول مريم اليوسف وهي من قرية كنصفرة، إنها هربت وعائلتها من القصف والموت منذ حوالي شهرين، وعندما سألناها عمن يطعمهم؟ أجابت: (أشو عبيطعمينا! مافي لا أكل ولا شرب ولا في شي)، فالسلة الإغاثية لم تحصل عليها مريم منذ شهرين، وهي تخاف على أطفالها من سوء التغذية والجفاف، وعند سؤالنا عن وضعهم، ردت بحرقة: (طفشنا من الموت، جينا لقينا الموت هون عم يستنانا).
تضم عائلة مريم اثنا عشر شخصاً يعيشون في خيمة واحدة إلى جانب أربع عائلات تستضيفهم في خيمتها، التي وصفتها بالنار لشدّة حرّها، الذي أدى لإصابتها بضربة شمس منذ فترة وجيزة، وتقوم مريم بتجميع الحطب لتطبخ لأولادها، وشأنها بذلك شأن كل نساء المخيم. أشارت إلى النار قائلة: (هاد مطبخنا)، أما زوجها فلم يكن موجوداً، لخروجه في رحلته اليومية اليائسة بحثاً عن عمل يمكّنه من كفاية عائلته، ثم أشارت إلى الرجل المسن المرتعش خلفها، والذي أسندته زوجته لجذع شجرة زيتون قائلة: (هذا الرجل قاعد بالأرض، وأنا وهالمرة منساعدو، ما بدو تغذية ليحسن يعيش؟)، كان الرجل مصاباً بإنتانات جلدية بحاجة لتنظيف مستمر ومعالجة سريعة، وهو مصاب بالشلل يحتاج لكرسي خاص على الأقل.
ناشدت مريم المنظمات الإنسانية والمسؤولين عن وضعهم لإغاثتهم، فقد أمضوا صيفاً لا يحتمل فما بالكم ببرد الشتاء الذي أصبح على الأبواب، غير متوقعة أن يلقَ نداؤها آذاناً صاغيةً أو ضميراً حياً، فالمجرم هدّم بيوتهم وشرد أطفالهم ودمر مستقبلهم، والعالم يقف متفرجاً مكتفياً بالتصوير والإدانة.
التعليقات متوقفه