أم يوسف: خنساء كفروما – فريق التحرير

أنا أم يوسف من قرية كفروما في ريف معرة النعمان الغربي، سقط لي أربعة شهداء، زوجي وثلاثة من أولادي.

أصيب أول ولد لي بالمظاهرات السلمية في معرة النعمان، وكانت إصابته في عينه، وتم نقله إلى تركيا، وبعد شهر ونصف تعافى ولكن ليس بشكل كامل.

أما ولدي ثائر، والذي يعمل شوفير على سرفيس، ويقوم بنقل عمال الغزل والنسيج من إدلب وإليها، فقد أخبرنا أنهم مستهدفون ويتم ضربهم بالرصاص أثناء مرورهم على الحواجز دائماً، وباءت محاولات أبي يوسف لثنيه عن الذهاب إلى المعمل بالفشل، وأخيراً استسلم الولد لرغبة أبيه، طالباً مهلة يومين حتى ينهي مدة عقده، وفي مشواره الأخير حدثت اشتباكات راح ضحيتها هو وعدد من زملائه.

استقبل أبو يوسف خبر استشهاده بقوله: “الله يرحمه”، ثم ذهب أبو يوسف وأعمامه لاستلام جثته من إدلب، وبعد التعرف عليه، أحضره إلى الضيعة بينما حضّرنا نحن عرساً تليق به، لم أستطع الوقوف لتوديعه، فقد كنت مصابة برجلي، إذ قام حاجز الطرّاف بقنصي وأنا أمام منزلي، فقاموا بحملي حتى أودعه، “راح ثائر، الله يرحمه”.

بعد فترة أتى ابني أسامة من دبي، ليرى عائلته ويطمئن علينا، سأله والده بخوف: لماذا أتيت؟ فقال: أتيت لأطمئن عليكم وعلى عائلتي، وبعد لومه على قدومه وإصراره أنه لا يحدث غير ما هو مقدَّر، وبعد أخذٍ ورد، قرر أن ينهي إجازته يوم السبت بعد أن أمضى معنا عشرة أيام فقط وكان اليوم جمعة، وبعد أن انهى توضيب الأغراض، وفي عصر ذلك اليوم، بدأت الطائرة تحوم في سماء كفروما، حاملة الموت والدمار ككل مرة، وكان أسامة جالساً يدخّن النرجيلة، وأحضر صديقه ليشاركه جلسته، وعندها رمت الطائرة عناقيداً من الموت، اخترق أحدها ظهر ولدي أسامة، وبدأ يصرخ طالباً نجدة أبيه، الذي هرع إلى الداخل خوفاً من الطائرة، ولكن صوت أسامة المستغيث أخرجه دون وعي لنجدته، وأثناء نزوله الدرج أصابته شظية في خاصرته.

تناسى أبو يوسف إصابته وهب لنجدة ولده رغم جراحه النازفة، ضمّه قائلاً “سلامتك يا أسامة سلامتك”، ولعدم وجود شخص يستطيع قيادة السيارة لإسعاف المصابين، اضطر أبو يوسف وهو يمسك خاصرته أن يقود السيارة حاملاً ولده وصديقه وجارتهم وابنها لأقرب مكان يستطيع الحصول فيه على نجدة.

وتم نقلهم إلى المستشفى جميعاً، وبقوا تحت العملية ست ساعات، خرج بعدها أبو يوسف يئنّ من تأثير المخدر، أما أسامة فقد كان يشخر ويئن، أما أنا فأمضيت تلك الفترة أخرج من عند أسامة لأزور أبي يوسف ومن عند أبي يوسف لأزور أسامة، وفي عصر ذلك اليوم عند الساعة الثالثة أمسكت يد أسامة قائلة: “سلامتك يا أسامة، سلامتك يا ولدي” فشد على يدي بقوة، انحنيت وقبلت رأسه طالبة له السلامة، فشد أكثر على يدي وأصدر أنيناً حاداً خرجت بخروجه روحه الطاهرة، صرخت طالبة إحضار الدكتور ليرى ما الذي يجري، والذي لم أفهمه بدايةً، وأخبرني الدكتور أن ولدي أسامة مات.

موقف صعب لا أدري ما أقول عنه، غسلت وجهي بالماء وذهبت لزيارة أبي يوسف في الغرفة المجاورة، اطمأنيت عليه واطمأن علي وعلى ولدي فأخبرته أننا بخير، ألح كثيراً بالسؤال علي إن كان حدث مكروه لأسامة ولكنني أخفيت عنه الأمر، ثم طلب مني الاقتراب فاقتربت منه وضع يده على يدي طالباً مني السماح، فقلت له: “مسامحتك دنيا آخرة” ولمته بمحبة، لأنه لم يقبل بالذهاب معنا إلى قرية كفرعويد، فطلب مني الاتكال على الله والامتثال لإرادته، تركته بعدها وعدت لأسامة، أخبرت جارنا أنني لا أخرج ولدي دون كفن، فقال: أمرك، وحدث ما أردت، ثم خرجنا لإيداع أسامة الثرى، وعدنا لأبي يوسف: الذي استغرب طول غيابنا، وأخبرناه أننا كنا عند أسامة نزوره، فسألنا عن حاله: فأخبرناه أنه بخير، وعندها اقترح أحد الحاضرين أخذ أبا يوسف إلى تركيا، وخرج ولدي يوسف معه، بعد أن منعوني من الذهاب، وفي اليوم التالي وبينما كان المعزون بأسامة يتقاطرون لأداء الواجب، وكان أول أيام العيد، خرجت لأجد الناس مجتمعين أمام داري وهم يتهامسون، شعرت بشيء ما ولكن لم أفهم ما يحدث، تقدم جارنا قائلاً: “يا أم يوسف ما رح طول عليكي، أبو يوسف عطاكي عمره”.

بكيت كثيراً من هول الفاجعة، ودعوت له بالرحمة، انتظرناه حتى يأتي، وكان في كفروما شهيد يومها ولذلك انتظروا أبا يوسف حتى يدفنوهما معاً، وكان لهم ما أرادوا، رحمهم الله.

أما ولدي يوسف، الذي حمل هموماً كالجبال، فقد أوصاه والده بي وبأخيه وبأولاد إخوته، كان يحاول إرضائي دائماً تنفيذاً لوصية والده رحمه الله، وبعدها انتقلنا إلى كفرعويد، هرباً من القصف، الذي لحقنا إلى هناك، وبسبب نفاد مخزون الماء قررنا الرجوع لقريتنا لإحضار الصهريج، ركبنا أنا ويوسف وطلبت منه السماح لزوجته أن ترافقنا فسمح لها، أما ابنته أمّون كما يناديها، فقد رجته أن تذهب معنا فلم يسمح لها قائلاً: “المشوار قصير وما منطول” عندها بكت أمون، وبكى يوسف لبكائها، سألته باستغراب: “ليش عبتبكي يا يوسف؟” فأجاب: “ما بعرف، بكتني أمون”!

زرنا أقاربنا في كفروما، وشربنا القهوة، خرج عندها يوسف لملاقاة أحد أصدقائه، تمشوا في الشارع وهم يشاهدون ما خلفته القذائف من موت ودمار، نال من بيوتنا وأولادنا، عندها سأل الشاب يوسف عن سبب نزوحهم خاصة بعد عودة الكثير من العائلات لبيوتها، فأخبره يوسف أن ما فقدوه حتى الآن كافياً، ولا يستطيعون المخاطرة بما بقي منهم، فقال الشاب: “حتى أهل المعرة رجعوا، وعندهن سوق كمان”، عندها استبد الفضول بيوسف، وقرر الذهاب مع صديقه لرؤية المعرة، رجوته برضايي عليه ومحبتي له ألا يذهب ولكنه لم يقتنع، وعندها قررت الذهاب معه وتقدمت بعشر خطوات، التفت وقال: “يامو، سايق جاه الله عليكي، إذا بتحبيني وبتحبي الله، ارجعي”، فرجعت. وأقنعني أن أحضّر له يبرق حتى يعود، ثم ذهب مكللاً بدعواتي، كان يسير ببطء في المعرة، ينظر عن يمينه وشماله إلى الخراب الذي طالها، وعند موقع أمن الدولة -ولسوء حظه- انشقّ أحد العساكر وهرب إلى تلك المنطقة، فقصف الجيش المنطقة، وتم استهداف سيارة يوسف بفذيفة حوّلت السيارة إلى كتلة لهب مشتعلة.

كان الانتظار ينهش قلبي، فقد مضت ثلاث ساعات ولم يعد يوسف الذي وعدني بالعودة بعد نصف ساعة، خرجت إلى جانب الجامع، وهناك رأيت دخاناً أسود في الجو، وعندها بكيت، شعرت أن مكروهاً ما أصاب يوسف، واستنجدت بصهري لمعرفة ما حلّ به، وجلست قرب الجامع منتظرة، بعد قليل رجع وسألنا عن أي علامة مميزة بيوسف، فأخبرناه أنه مصاب بفخذه بسبب حادث قديم، فأخذ ابني أحمد للتعرف عليه في المشفى الميداني بالمعرة، وأحضروه شهيداً متفحّماً.

رحمك الله يا يوسف، حاولت كثيراً إلقاء نظرة الوداع عليه ولكنهم منعوني بشدة، وهذه قصتي، فقدت أولادي وزوجي وها أنذا نازحة مع زوجات أولادي وأحفادي، سمعت كثيراً عن الخنساء، ولكنني لم أدري أنني سأكون خنساء كفروما، أعود لداري في كفروما فلا أجد إلا الذكريات، فهنا جلس أبو يوسف وهنا نام ثائر وهنا شرب أسامة النرجيلة، لا أدري كم يستطيع قلبي التحمل، أسأل الله أن يلمهني الصبر، وأن يجمعني بهم في جنان النعيم.

أنا أم يوسف من قرية كفروما…

((فقدت أم يوسف ابناً رابعاً بعد إعداد هذه المادة))

التعليقات متوقفه