الوطنية وكهنوت الوهم – أحمد اليوسف

الوطنية وكهنوت الوهم

أحمد اليوسف

يُنقل عن تولستوي قوله: “إنّ الوطنية هي العبودية”. ويصعب علينا نحن الذين تبنينا الوطنية انتماءً، وقيمةً اخلاقيةً، ونهجاً سياسياً، فهم الارتباط الوثيق بين الوطنية والعبودية. وتأتي هذه الصعوبة من كوننا لانفكر غالباً بما يتضمنه مفهوم الوطنيّة ذاته، وإنّما نفكر بعد تحويل الوطنية إلى قيمة إيجابيّة أخلاقيّاً وسياسيّاً وحتى دينيّاً..

فنادراً ما وضعنا مفهوم الوطنية ذاته موضع نقدٍ وتأملٍ، بل قمنا، غالباً أو دائماً تقريباً، بجعله نقطة انطلاقٍ في تقييمنا للمواقف السياسية. ويعلم الله وحده كيف أصبح للوطنية كهنوتٌ يبشِّر بها ويجعلها قيمةً متعاليةً فوق التفكير، أو تحته، أو فيما ورائه.

وككلّ الماورائيات، تتجسّد الوطنية في اعتقادٍ وثوقيٍّ (دوغمائيٍّ) وأسطوريٍّ (ميثولوجيٍّ)، يعطي لنفسه طابع القدسية، بوصفه قيمةً قبليةً سابقةً على الأحكام في إقرارها أو رفضها. والوطنية تضلّلنا في ربطها لنفسها بالوطن بوصفه انتماءً، وكأنما الانتماءات سابقة علينا لا لاحقة لنا، وكأنّ الانتماء هو اضطرارٌ عضويٌّ أو وراثيٌّ أو وجوديٌّ، لا خيارٌ فكريٌّ أو أخلاقيٌّ. فكهنوت الوطنية يحيلها إلى رابطةٍ عضويّة أو قسرية يتم توارثها بالولادة، كحال كلّ الروابط العصبوية. وفي الواقع، ليست الوطنية إلا شكلاً من أشكال العصبية، تماما كما هي العصبية القبلية. وتفرض الروابط العصبوية على الفرد فضيلة الامتثال في بنيةٍ ذهنيةٍ عقائديةٍ تكفِّر الأنا الفردية، مقابل تمجيد العشيرة أو القبيلة (الوطن). ومن هنا نفهم التناقض الصارخ بين الوطنية بوصفها انتماءً يتعالى على الأفراد مخوِّناً المروق الفردي، والمواطنة بوصفها انتماءً تعاقدياً يردّ للفردية شرعيتها.

ومحقٌ “صموئيل جونسون” في قوله: إنّ الوطنية هي الملاذ الأخير للحمقى؛ فما من تربةٍ أكثر خصوبةً للوطنية، من الحماقة والبلاهة والخواء الفكري. وقد استثمرت سلطات الاستبداد هذه العبودية الطوعية (كما يسميها “بويسي”) المتضمنة في الوطنية أفضل استخدامٍ. فعلى سبيل المثال النموذجي، وضع نظام البعث في سوريا كتباً ومناهجَ دراسيةً تحت مسميات الوطنية أو التربية الوطنية؛ ونجح من خلالها، ومن خلال تواطؤ كهنوت الوطنية، بترسيخ روح الامتثال والطاعة، وبجعل الانتماء إلى الوطن انتماءً طوطميّاً صنميّاً عصبيّاً، يقبل بالطغاة، تماماً كما يقبل العبيد بأسيادهم، أو المتدينون بآلهتهم أو أصنامها، أو أفراد العشيرة المقموعين بزعيم العشيرة أو شيخها الأكبر. ويبقى ولاؤنا لشيخ الوطن مقدّماً في محنة المواجهة الخارجية. فحكم ابن العم أو القريب ولا حكم الغريب.

ولا معنى للوطنية بلا مواجهة خارجيةٍ. وعلى هذا الأساس، أصبحت سوريا، المفرّغة الدواخل، تفضّل داخلها الوطني على الامبريالية الخارجية، في عقيدةٍ بعبعيّةٍ تدّعي المواجهة والممانعة والمقاومة. والامبريالية هذه هي المقابل الوطني للشيطان في الطرح الديني، فكلّ من توسوس له نفسه بأن يكوّن رأياً فردياً بخصوص الانتماء أو الولاء، يصبح مارقًا، ويتم رميه خارج ضوابط الوطنية، بصفته عميلاً للامبريالية العالمية.

والتحرر نقيض العبودية، وهو محكومٌ بضرورة هدم صنمية الوطنية، وتجاوز كهنوت الوهم الوطني؛ فما من تحرّرٍ ممكنٍ حيثما تكون الوطنية قائمةً وطاغيةً. وكهنوت الوهم هم أولئك الوطنيين الذين يضحون بنا –نحن بسطاء الوطن القسري والانتماء الجبري والوطنية القهرية– بسخاءٍ بطوليٍّ، لأجل اعتلاء منابر القضية. وانطلاقاً من ذلك، نجد مثقفاً وطنياً وشاعراً وطنياً وسجّاناً وطنياً ورئيساً وطنياً ومعارضاً وطنياً، يختلفون فيما بينهم، ويتساجلون في كل شيء، ما عدا شعائرهم الوطنية؛ ويجري ذلك في تواطؤٍ ضمنيٍّ حيناً، ومعلنٍ أحياناً، على حساب مواطنين سُلخت عنهم مواطنيتهم، وألبسوا لباساً موحداً اسمه الجماهير. وحين تسلب ذوات الناس باسم الفضيلة، فما من خيارٍ لاستردادها إلا بقيم الخيانة، وهي قيم السلب والرفض، قيم الثورة والتمرد. وحين يواجه المرء عقائد صنميةً، تكون الخيانة، كما الكفر، ثورةً. ولهذا قال الماغوط في مروقه الوطني: “سأخون وطني”.

يقال إن فيلسوفاً ثورياً بلغ أعلى درجات الجحود الأخلاقي –حين بلغ به القرف حد الغثيان، من تمسّح الكنيسة الكاثوليكية بالفضيلة الإلهية– فأعلن موت الإله ليسترد ذاته. ربما نحتاج، نحن الذين سلبت ذواتهم لأبدياتٍ متتاليةٍ، أن نعلن موت الوطن، في سبيل ولادتنا، كمواطنين، خارج معموديات الوطنية، أو كبشرٍ، خارج صنميّة الانتماءات المغلقة والجامدة. وبدلاً من قول كهنوت الوطنية: “يموت الجميع ويحيا الوطن”، قد يكون ضروياً القول: ينبغي أن يموت هذا الوطن، ليحيا الجميع.

التعليقات متوقفه