تلك الحكاية نفسها – غفران طحان

تلك الحكاية نفسها!

014

القاصّة: غفران طحّان – خاص الغربال

“قبل أن يسكن الموت حلب.. كان يتمرأى بحمص.. ويقول: أنا قادم”

عدت إلى الحارة أحمل حذائي بين يديّ، فقد اتفقت أنا وأصدقائي على خلع أحذيتنا، والمشي حفاةً حتى نرى مقدار تحملنا.. ذلك لأننا صرنا رجالاً! كانت تتردد في البيوت ألفاظاً تعبّر عن تلك الرجولة، ونحن نرى في حاملها صفاتٍ خرافيّةً تتوافق وقصص الخيال التي تحكيها الجدات..

عندما وطئت قدماي أرض الحارة المرصوفة بحجارة ناتئة، تعثرت، ووقعت أرضاً، تمالكت نفسي حتى لا أبكي، فقد يكون أحد أصدقائي بالقرب مني، ويتهمني بأنني مازلت طفلاً، جلت ببصري في المكان لأرى إن كان أحدهم يراني، فاصطدمت عيناي بأناسٍ أغراب يتجولون في عالمنا، سرت رعشة الخوف في جسدي، ولكنني تمالكت نفسي، ولم أصرخ، أو أهرب خوفاً..فأنا الآن رجل!

لمحت في مدخل الحارة شيئاً كبيراً، يوجه خرطومه كفيلٍ نحو أبواب الحارات كلّها، عاودني الخوف، ولكنني أبعدته عني بضحكةٍ طفوليّةٍ، وبشيء من المتعة! رحت أتساءل حول ماهية هذا الشيء:”تراها لعبةٌ جديدة وضعوها هنا!؟”

خطوت برفق على أطراف أصابعي، رغم الألم الذي كان يسكنها لكثرة المشي، واقتربت من ذلك الشيء العملاق، كان صلباً، وله ألف قدم، جسده ضخم، ورأسه يسكن منتصف الجسد، ويمتد خرطومه بشكل مستقيم صوب بيتنا، كنت سأتسلّق ذلك الشيء الغريب، لأتعرّفه أكثر، وأكون أول من يلعب عليه من أطفال الحارة، ولكنني فوجئت بشخص له رائحةٌ ملوثة يمسكني من ناصيتي بلؤم، ثمّ يقصيني عن المكان، وهو يتلفظ بأبشع الكلمات! ركضت نحو البيت، لأدفن نفسي في جسد أمي الباكية، حضنتني بقوة، وقالت: كاد قلبي ينفطر عليك.. تركتها، وذهبت إلى أبي على عجل: أبي..أبي..هناك لعبة جديدة على باب الحارة، ولكنها ضخمةٌ جداً، وهناك …

وضع أبي يده على فمي، وقال لأمي:”خذيه إلى القبو في الأسفل، وابقي معه هناك…” لم أفلح في الإفلات من قبضة يده القوية، حتى ساقتني أمي إلى القبو، وأشارت عليّ بالصمت..

في الأسفل حشرت وأخي وأختي وأمي في زاوية القبو، وجدتي بالقرب منا، تمسك سبحتها، وتتلو صلوات تغري الدمع بالانسكاب، فقد كانت أمّي لا تتوقف عن البكاء أبداً، لم أفهم ما يجري، وقدماي مازالتا تنزفان وتؤلمانني، ولكنني لم أستطع أن أقول أيّ كلمة..

صحوت على ضوء يشتعل حولي، وأصواتٍ تشبه مدفع رمضان، ولكنّها لا تحمل فرحه، فمع كلّ صوت كانت جدتي وأمي تصيحان ياااارب سلّم، ووالدي ينزل ويصعد، وهو يطلب من أمي تغيير مكان جلوسنا..لم أستطع استيعاب ما يجري، ولكنني استجبت باستكانةٍ لنظرة أمّي العاتبة الخائفة حين حاولت الصعود وراء أبي، التزمت الصمت، واندسست في حضنها أبحث عن أمان بات مفقوداً!

هدأت أصوات تجلب النار والخراب، ارتدت روحي إليّ عندما لمحت عمّي سعيد يقف أمامنا، ركضت نحوه، وتعلقت به.. كانت جدتي مستمرة بالنحيب، أبعدني عنه برفق، ثمّ ارتمى في صدرها، وطلب منها الدعاء.. حضنته بقوة، صرت أبكي معهما، وأمي تبكي معنا.. بل إنّ تلك الحجارة المتشققة في قبونا القديم كانت تبكي أيضاً..

 فجأة ابتعد عمي عن حضن جدتي، طبع قبلة على جبينها، ثمّ حمل يدها وهمس لها بابتسامة، وصعد إلى الأعلى.. ومن وقتها اختفى، كما اختفى والدي، الذي عاد بعد أن عرفت أنّ ذلك الشيء الضخم لعبةٌ كبيرةٌ جداً..!

… أجلس الآن مع أطفالي، وأتابع حكايةً قديمة تتكرر على أسوار مدينة أخرى، أرقب تلك الألعاب الكبيرة وهي تمارس غواية الموت، وتتسلى بالزحف المبين، أجمع أطفالي إليّ، وأحاول أن أحيطهم من كلّ الزوايا، كم أتمنى لو أنني أمتلك ألف ذراع تحضن كلّ جزء فيهم، ولا تجعل شيئاً منهم يبين.. ابني الكبير الذي أسميته بطلب من عيني جدتي”سعيد”، كان في كلّ مرّة أحضنه يحاول التفلت، وهو ينظر إليّ بطريقة تشعرني بأنه بات رجلاً وليس بحاجة إلى الاحتماء بي.. إلى أن قال لي بلهجةٍ غاضبةٍ متحدية:

–       هل سيأتي دور مدينتنا يا أبي!؟

لحظتها.. تركته يفلت من حضني، ونظرت إلى عمّي فيه..إنه الآن بات يعرف “مثلي” أنّ ذلك الشيء.. لعبةٌ كبيرةٌ جداً، وستأكلنا جميعاً إن لم نصنع لها النهاية..!

التعليقات متوقفه