أحاديث الجدّات – منى إدريس

أحاديث الجدّات

منى إدريس

جدتي ذات الثمانين عاماً، امرأة كتب الدهر على وجهها بكل أقلامه، خاضت غمار الحياة بكل قوة، وهي تجلس اليوم كمن يرتاح من عناء السفر. لطالما روت لنا ذكريات طفولتها في أمسيات الصيف الهادئة التي تنعش ذاكرتها بنداها، والتففنا حولها قطيعاً من الشغف والإنصات.

تكلمت عن حصادهم للقمح وعن ذهابهم للرعي شباباً وصبايا وعن لعبهم عندما كانوا صغاراً، ودعت لتلك الأيام بالخير دائماً راشقةً تلك الدعوات بالحسرة لعدم إمكانية رجوعها.

كنت دائمة السؤال لها عن كل ما يشغل بالي وكانت ملبية لي عند الطلب، سألتها مرة عندما كنت في الصف السابع عن الإخوان المسلمين، فرمقتني بنظرةٍ اعتدت عليها عندما أخطئ, ووشوشتني بخوف لم أفهم سببه، وسألتني ماذا تعرفين عنهم؟

ضحكت، فلو عرفت شيئاً لما سألت، قلت لها إنني أظنهم جماعة معادية لحزب البعث وربما سبب تسميتهم “إخوان” أنهم خانوه! وهم يدينون بالإسلام، مثلنا ولكن ما أريد معرفته هو: لماذا يخون المسلم هذا الحزب؟ هكذا كانت قناعتي حينها.

اطمأنت جدتي لتشبعي بأفكار الحزب العظيم ولعدم فهمي حقيقة الأمر وأقسمت عليّ ألاّ أعود للكلام في هذا الموضوع مرة أخرى، فهي ما زالت مسكونة بخوف ثمانينيات القرن الماضي، الفترة التي لم تروِ لنا عن ذكرياتها فيها شيئاً، وكأنها لم تعشها.

بالطبع حصلت على الإجابة من مصادر أخرى وفهمت القليل مما أردت، ولكنه كان كافياً لكره “البعث”.

اليوم، جدتي من أكبر معارضي النظام؛ تجلس على باب بيتها تدعو للثوار في طريق ذهابهم، وتنتظرهم على عتبة بيتها الطيني كمن ينتظر ثأره من قاتل أبيه. فهي على حد قولها لم تفقد أحباءها في تلك الأيام ولكنها رأت القتل الوحشي يحصد الكثير من أهل قريتنا الصغيرة.

نلتف اليوم حولها لتروي لنا ذكرياتها أيام الثمانينيات، كيف قُتل شيخ القرية رحمه الله، وكيف دخلت الدبابات قريتنا التي لم يكن يتعدى سكانها بضعة آلاف، وكيف أن الأم كانت تتبرأ من ابنها المنضم لتلك الجماعة لتحافظ على الباقين أحياء، أما إذا قُتِل أحدهم فإن جثته تبقى في مكانها لايجرؤ أحدٌ على النظر إليها غير الأطفال، حتى أن أمّ القتيل ما كانت تجرؤ على البكاء، وتتحدث كثيراً عن نزوح أهالي حماه إلى قريتنا، وكيف قاسمناهم لقمتنا الفقيرة، وتصر على أن الفرج قريب وأن النصر آت لامحالة، ودعاءها الدائم أن يطيل الله عمرها حتى تتنشق أريج الحرية.

تتكلم كثيراً عن فترة الثمانينيات وكأنها لم تعش غيرها، أما أنا فأكتفي بالإنصات دون أن أسألها فقد وعدتها بالصمت يوماً ما…

التعليقات متوقفه