الهجرة هي الحل الوحيد.. فهل كانت الأفضل؟ – سلطانة محمد

لم يكن أحمد يعرف أنه عند عودته من عمله سيجد بيته الذي تركه قائماً يضج بصراخ أولاده قد التصق بالأرض، عاد ينشد الراحة بعد التعب، ولكنه وجد عائلته تلثم حجارة منزله المهدم، لم يحزن أبداً خاصة بعد أن علم أنهم كانوا خارجه وأنهم نجوا من موت محقق، حمل أطفاله وبدأ رحلة تشرده الداخلية في قريته بداية، ثم في المخيمات الداخلية عند الحدود التركية، والتي أوصلته إلى المخيمات التركية، وبدورها كانت بوابة عبوره إلى أوروبا تهريباً عبر البحر، يقول أحمد: “لم أفكر يوماً بالهجرة، لكنني وجدت نفسي مشرداً داخل وطني، ولم أحتمل حياة المخيمات، لذلك فكرت أن أبدأ حياة جديدة، وكانت ألمانيا هي المكان المنشود” يروي أحمد قصص الكثيرين ممن التقاهم في طريق هجرته والأماكن المؤقتة التي أقام فيها، ويقول: “التقيت الكثير من أبناء بلدي، كلٌّ له أسبابه التي جعلته يهاجر، فالبعض طلاب بعمر الثامنة عشر ممن هاجروا بغرض الدراسة، والبعض هارب مثلي من القصف أو وقع ضحيته وخسر أفراداً من عائلته وقرر حماية الباقين، والبعض هارب من الفقر، والبعض أدرك نهاية مستقبله وقرر أن ينقذ مستقبل أطفاله”، ويستدرك أحمد قائلاً: “لم يكن اللاجئون فقط من أبناء المناطق المحررة كما ظننت للوهلة الأولى، فهناك أيضاً في مناطق النظام أناسٌ أرهقهم الخوف من الوقوف على الحواجز التي باتت تفوق عدد الطرقات وتتعامل بمزاجية مع الناس، وبعضهم يعاني من الفقر المدقع، وبعضهم هرب من الخدمة الإلزامية في معركة لقتل أبناء بلده، فالغريب أن تلتقي طرقاتنا بعيداً عن الوطن، رغم اختلاف أوضاعنا داخله”.

ورغم أن الهجرة كانت حلاً للكثيرين، الذين اعتبروا أوروبا هي الجنة الموعودة، إلا أن البعض لم يكن يملك أدنى فكرة عن وجهته الجديدة، سوى أنها مكان لا يطاله القصف فيه وكان ذلك كافياً لهم، وبنفس الوقت تجد أناساً صدموا بالوضع هناك بسبب سماع الأقاويل التي وصفت أوروبا بالقارة العجوز، فظنوا أنها ستشتري قدومهم بثمن باهظ، وهؤلاء لم يحتملوا هذه الخيبة وبعضهم قرر العودة، يقول أبو محمود السعيد بإقامته الجديدة: “يكفيني أنهم يحترمون الإنسان لإنسانيته فقط، وبأنني ضمنت حياة كريمة لأولادي، ورعاية طبية، ومستقبلاً دراسياً جيداً، يمكنهم أن يعودوا ليساهموا في بناء وطنهم بعد انتهاء الحرب، ما الذي يريده الإنسان غير ذلك؟”، بينما يتذمر منذر من حياة الكامبات المؤقتة، التي يعتبرها لاتقل سوءاً عن المخيمات، فيقول: “لقد تفاجأت بصراحة من الوضع هنا، فقد أخبرني أصدقائي أنهم هنا يوفرون للاجئ حياة كريمة ودخلاً ثابتاً والذي لم ألمسه حتى الآن، بسبب الإجراءات القانونية التي اضطرتنا للوقوف في طوابير طويلة في أوضاع جوية صعبة لاتختلف عن طوابير وطننا، هذا عدا عن مطالبتنا بتعلم لغتهم وبعضنا تجاوز سن التعلم والبعض تجاوز الصف السادس بصعوبة في بلده، فكيف يتعلم لغة جديدة؟”، وأصبحت أمام اللاجئين صعوبات أخرى وجب عليهم اجتيازها للتعايش مع المجتمع الجديد، أم سليم وهي أم لستة أطفال تشرح معاناتها مع بلد اللجوء، فهي غير راضية عن تدخل الحكومة بطريقة تربيتها لأطفالها والقوانين الناظمة لعلاقتها بهم، فتقول: “سمعنا الكثير من القصص عن أخذ الحكومة للأطفال من ذويهم بعد تعرضهم للتعنيف، وهناك قوانين تمنع الأهل من مراقبة أبنائهم بحجة أنها حرية شخصية، هذا عدا عن إفهام أطفالنا أن بإمكانهم الاتصال بالحكومة والشكوى علينا في حال أسأنا معاملتهم، ناهيك عن مناهج تعليم الثقافة الجنسية، التي لا أظن أننا بحاجة لتفتيح عيون أطفالنا عليها في مثل هذا السن المبكر، وبرأيي هذه الحرية الزائدة ستؤدي بأولادنا للانجرار في طرقات سيئة ويمنعنا من ردعهم، وبالتالي سنخسرهم” وما زالت أم سليم محتارة بأمرها، فهل تتأقلم مع الوضع الجديد، أم تقرر العودة لتكسب أولادها؟.

وبالمقابل هناك الكثيرون ممن احترموا خصوصية البلدان المضيفة، وحاولوا الذوبان في بوتقتها، إذ يعتقد المهندس زياد أن حياتهم طبيعية وأن من حقهم مطالبة اللاجئين بالاندماج في مجتمعاتهم واحترامها، لكن المشكلة تظهر في فهم بعضنا الخاطئ لهذا الاندماج “فالبعض فهمه محاولة لسلبه دينه الذي يؤمن به، وبالتالي ازداد تمسكه وتشدده، والبعض فهمه التخلي عن كل شيء تربى عليه وبالتالي ازداد تطرفه التحرري، وأصبحت ترى بين اللاجئين حالات خلع الحجاب وزواج المثليين وطرق ملابس وأوشام غريبة حتى عن المجتمع الجديد، وبرأيي فشلنا كسوريين في التعبير عن نفسنا وإعطاء المجتمع الجديد دافعاً لتقبلنا واندماجنا الفكري معه”، ومن الظلم اختصار قصص محاولات الاندماج بما سبق، فالبعض استطاع إثبات وجوده في بلده الجديد، واستطاع أن يتعلم اللغة ويقيم علاقات صداقات جيدة مع السكان. تقول السيدة هدى: “كان خيارنا واضحاً، إما الموت في وطننا أو الحياة بعيداً عنه، لم نأت إلى هنا لنتذمر أو نعيش على المعونة الحكومية، لذلك جهدت وعائلتي أن نبدأ حياتنا بشكل صحيح هنا، ووجدنا أن اللغة هي مفتاح المجتمع الذي حرصنا على امتلاكه، وبالفعل استطعنا بوقت قصير نسبياً الحصول على عمل وأقمنا علاقات جيدة مع جيراننا وأصبحنا نتبادل الزيارات والعزائم، ونخبرهم عن وضع الشعب الذي تركناه خلفنا، والذي يموت يومياً بقصف الطائرات والكيماوي، واستطعنا تعليمهم كلمات عربية أيضاً”، وتلقي هدى باللوم على المتذمرين لاتكاليتهم وعدم محاولتهم التقدم والاندماج أصلاً، “الشعب هنا بسيط وطيب لا كما يتم تسويقه في الإعلام، بأنه يرفض وجودنا ويطالب برحيلنا”.

وتقول غونيش تاوش, وهي مهاجرة تركية الى ألمانيا تبلغ من العمر 52 عاماً، “في العام السابق فكرت بالعودة إلى تركيا وقضاء السنوات المتبقية لي هناك, اخترت مدينة أزمير علماً أن أصلاً من مدينة كارمان, في الحقيقة لا أستطيع العودة إلى مدينتي الأم, فالعادات التي اكتسبتها في ألمانيا تجعل العيش في تلك المدينة المحافظة أمراً صعباً, كما أن أزمير مدينة سياحية يدخلها أناس من عدة جنسيات وسيكون الوضع هناك مريحاً أكثر بالنسبة لي، لكن بعد استقبال ألمانيا لمجموعات كبيرة من اللاجئين في السنوات الأخيرة, قررتُ البقاء ومساعدة ألمانيا واللاجئين على حد سواء, أعتبر نفسي ألمانية الآن ولدي مسؤولية اتجاه اللاجئين الجدد, وأعلم أن أكبر صعوبة يواجها اللاجئ هي حاجز اللغة, لقد مررت بهذه المرحة من قبل وأعلم صعوبة هذه التجربة, لذلك قررت تقديم المساعدة بتعليم اللاجئين اللغة الألمانية بطريقة مبسطة بحيث لا يشعرون أنهم ملزمون على تعلمها”.

ورغم أن الرغبة في الشعور بالأمان كانت المحرك الدافع لأغلب من خاض تجربة الموت هذه، إلا أن خوفهم لم يتوقف بمجرد وصولهم إلى مبتغاهم، وذلك بسبب استخدام قضية اللاجئين كدعاية انتخابية لليمين المتطرف الذي جهد في إظهار اللاجئين كمجموعة من المجرمين الإرهابيين والمتطرفين، “أصبحنا أكثر تقوقعاً، إذ يكفي أن يحدث إطلاق نار في أحد الأمكنة ويتواجد فيه مسلم أو لاجئ ليكون المتهم الأول!” قال أحمد، هذا عدا عن المظاهرات المناهضة لوجود اللاجئين والتي اضطرت الحكومات لزيادة العراقيل بوجههم، وزيادة التشديد عليهم، ومحاولة إغرائهم بالمال ليعودوا إلى بلادهم للتخفيف من حدة الاحتقان بين الحكومات الداعمة لهم والشعب الذي يتم تجييشه ضدهم، ويكمل أحمد: “هربنا من المصير المجهول الذي تقوده الحرب، والآن مازلنا نخاف المصير المجهول الذي تقوده السياسة!”.

ويبقى على عاتقنا كلاجئين أن نتقبل هذا المجتمع الذي اخترنا بإرادتنا أن نكون جزءاً منه، فالبعض الذي بقي في وطنه فضل الموت أو النزوح الداخلي على الهجرة، كما يقع على عاتق الدول المضيفة تحييد اللاجئين عن معاركهم الانتخابية، فاللاجئون في النهاية بشر هاربون من الحرب، وبعضهم كان يحيا حياة كريمة مترفة قبل أن يضطر لترك كل شيء والهرب بجلده.

 

 

 

التعليقات متوقفه