قضايا عالقة في المحاكم الثورية – محمد الأسمر

الغربال – تعدّدت محاكم السوريين في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة بتعدد الفصائل وأكثر، ومضت قرابة الستة أعوام من عمر الثورة والسوريون يحملون قضاياهم المتنوعة من محكمة إلى أخرى بغية حلّها، مخلفة خلفها (السنوات الست) الكثير من القضايا التي تبحث عن حلول، مثل قضايا الأحوال الشخصية والميراث والطلاق وغيرها من القضايا التي باتت بحاجة لمحاكم تفصل فيها.

وتوزعت تلك المحاكم على عموم المناطق المحررة وتلاشى واضمحّل الكثير منها، بعد أن تفرق جمع الفصيل الضامن لها، واندمجت محاكم أخرى ببعضها، لتشكل هيئات قضائية وشكلت أخرى دور قضاء، وثالثة كانت عبارة عن محاكم مستقلة عن غيرها بينما كانت تتمتع بتبعية كاملة لفصائلها، وبين هذا وذاك بقيت الكثير من القضايا عالقة بين أدراج المحاكم زمناً طويلاً دون الفصل بها، وقضايا أخرى توفي أصحابها وتلاشت المحاكم المدونة بها دون البت بحكمها.

سعيد مدرس سوري يعيش في تركيا، وكان له تجربة مع القضاء الثوري يقول لـ”الغربال” تعرّضت مزرعتنا في يوم من الأيام لحادثة سرقة، واعتدى اللصوص على حارس المزرعة بالضرب، فتمكنّا من معرفة السارق، بعد أن أخبرنا الحارس بمواصفات اللص الدقيقة”.

وأضاف سعيد “توجّه أخي إلى إحدى المحاكم وقدم شكواه، فطالبته المحكمة بالشهود لتثبيت الدعوى واستدعاء المدعى عليه، تمّ إحضار الشهود وتثبيت الأقوال وهنا بدأت المعاناة…
فالمحكمة عادة ترسل برقية حضور للمتهم، وبعد مضي وقت من الزمن إذا لم يحضر المتهم ترسل له إنذاراً بالحضور، وإن تغيب بعدها ترسل المحكمة قوة تنفيذية لإحضاره موجوداً، وهذه الإجراءات تتطلب زمناً طويلاً”.

وأردف أنّه “وبعد حضور جلسات عديدة بحضور المتهم أحياناً وغيابه أحياناً أخرى قررت المحكمة موعد جلسة النطق بالحكم، فسافرت يومها من تركيا إلى سوريا لحضور الجلسة، فأبلغونا أن القضية حولت إلى محكمة أخرى مستحدثة ليتمّ تأجيل المحاكمة وبعد فترة من الزمن تعرضت المحكمة للقصف الجوي فتم نقلها إلى مكان آخر، ثم تغير القاضي المسؤول عن القضية واستشهد أخي ولم نحصل على حقنا”.

لعلّ ظروف الحرب وانعكاساتها على الواقع السوري كانت صاحبة الدور الأكبر في عرقلة القضايا والبت بأحكامها، فحالة الحرب هذه والعشوائية التي تسود المناطق المحررة ساهمت في ضياع الكثير من الحقوق دون أن يتمكن أصحابها من الحصول عليها أو تجريم المتهم.
مصطفى مزارع سوري هو الآخر ضاع حقه بعد طول سعي خلف المحاكم يقول لـ”الغربال” كان لي دين على رجل وتأخّر كثيراً في سداده، فطالبته بحقي مراراً وتكراراً ولم يدفع فوجدت نفسي مرغماً على تقديم شكوى بحقه، توجّهت إلى إحدى المحاكم الشرعية وقدمت شكواي، فلبثت القضية في المحكمة زمناً طويلاً ولم يبت بأمرها، فاضطررت إلى رفع القضية لمحكمة أخرى، لكن حينها كان المدعى عليه، قد غيّر مكان إقامته وبات من الصعوبة إيجاده، وبعد معاناة طويلة في البحث عنه انحلّت المحكمة التي رفعت الشكوى لديها بعد أن تفرق الفصيل الداعم لها، فضاعت قضيتي مع الكثير من القضايا الأخرى”.

لقد تنقّلت العديد من القضايا بين المحاكم بهدف الوصول لمحكمة ذات سلطة تتمكّن من تحصيل حقها، فالناس غالباً ما تميل للسلطة والقوة بهدف الحصول على حقوقها، وآخرون لم يحصلوا على حكم لصالحهم فبحثوا عن محكمة أخرى قد تمنحهم الحق المنشود.

لكن يرى أبو أيوب وهو رئيس سابق لإحدى المحاكم، أنّ تنقّل القضية من محكمة إلى أخرى بغية الحصول على حق زائف نادر جداً، بسبب وجود مذكرة تفاهم بين المحاكم بحيث لا ترفع دعوى قد رفعت في محكمة سابقة، ولا ننكر أنّ البعض قد يميل للتزوير ويخفي أنه قد رفع قضيته في محكمة أخرى وقد يتمكن من الحصول على حكم مخالف للحكم الأول لأسباب عدة، أهمها أن القضاة غير مؤهلين للقضاء بشكل كامل، والأمر الثاني الاختلاف الفقهي والفكري بين المحكمتين مما ينتج حلّاً قضائياً مختلفاً.

وقال أبو أيوب لـ”الغربال” إنّ، “الشمال السوري يضم أكثر من خمسة وعشرين محكمة، وتعتبر الهيئة الإسلامية ودار القضاء من أكثر المحاكم انتشاراً، وهذا التعدد في المحاكم يؤدي لزاماً إلى تعدد الأحكام، بسبب اختلاف وجهات النظر بين محكمة وأخرى وقاضٍ وآخر وبحسب المذهب الفكري الذي يتبعه كل القاضي، وخصوصاً في قضايا الصالح العام أو الوقف، ولعلّ المخلّص الوحيد من هذه الإشكالات هو إيجاد جسم قضائي موحد بقرارات وأحكام واحدة”.

وأضاف رئيس المحكمة السابق أنّ، “عدة حالات اندماج حدثت في وقت سابق، لكنها لم ترقَ لتطلعات الشارع السوري”، منوهاً إلى أنّ، “الكثير من الناس لها ثقة بالمحاكم الموجودة لكن بدأت الثقة تنعدم في بعض المحاكم لسببين، أولاهما أن المدني يظن أن المحكمة لم تحكم له بحقه، وثانيهما أن المحكمة حكمت له بحقه، لكنّها لم تتمكن من تحصيل حقه إما لقوة الجاني أو لضعف المحكمة، والناس بشكل عام تثق بمن يضمن لها حقها”.
لقد دفعت هذه المعاناة الكثير من السوريين لحل قضاياهم خارج أسوار المحاكم، فلجأ الكثير منهم إلى الوجهاء وأهل الحل والعقد للفصل بينه وبين خصمه.

يقول “أبو الزينو” وهو قاض في إحدى المحاكم الشرعية لـ”الغربال” إنّ، “الكثير من القضايا المطروحة نعمد لحلها خارج أسوار المحكمة، هرباً من الروتين القضائي الذي أتعب الناس، وخصوصاً في قضايا الميراث والطلاق والقضايا المتعددة الأطراف، فصرنا نعمد لجمع المتخاصمين بحضور أحد الوجهاء ونسمع أقوالهم ومطالبهم ثم نتوصل معهم لحل رضائي يقبل به الجميع”.

ومثل هذا النوع من الجلسات الرضائية أمسى شائعا بكثرة هذه الأيام ، وتجاوز مسائل الميراث والطلاق ووصل إلى حد الحكم بقضايا القتل، والتي قد تتطلب وقتا أطول للوصول إلى حل يرضي أهل القتيل.

وأشار أبو الزينو إلى أنّ، “الناس بدأت تفقد ثقتها بالمحاكم المتنوعة، بسبب تعدد هذه المحاكم والاختلاف فيما بينها، وبسبب الروتين المقيت المتبع في الأنظمة القضائية وقد يكون إيجاد مجلس قضائي موحد هو المخلص الوحيد لهذه العثرات”.
ومن جهته يقول عبد الرحمن، أحد العاملين في المجال القضائي لـ”الغربال” لقد حصل تقارب فيما مضى بين المحاكم بعد تشكيل جيش الفتح، وبدا الاندماج وشيكاً، لكن الخلافات الفكرية بين الفصائل منعت هذا الاندماج وخصوصاً بعد المؤتمرات التي عقدت بشأن سوريا، كمؤتمر الرياض وغيره فبعض المحاكم أجازت الحضور وبعضها رفضته”.

ويرى عبد الرحمن، بحكم عمله الطويل في هذا المجال أنّ، “تعدد المحاكم له أسباب عدة أهمها فقد الثقة بين المحاكم لانعدام الثقة بين الفصائل الكبيرة التابعة لها، أما الأمر الثاني فهو الاختلاف الفكري والفقهي المتجذّر بين الفصائل، والأمر الأهم هو بسط السيطرة وحب النفوذ لدى الفصائل، فكل فصيل له مشروعه الخاص ورؤيته الخاصة في قيادة البلد”.

وعن تأخر البت في القضايا زمناً طويلاً في بعض المحاكم يشرح عبد الرحمن أنّ، “عدة أسباب تساهم في ذلك، أهمها الإجراءات القضائية المقيتة التي أُخذت من بعض المحاكم العربية، وهي إجراءات صحيحة، لكن لا يمكن إسقاطها على الواقع السوري، بسبب ظروف الحرب وغياب القوة التنفيذية، مثل الاستئناف والتمييز وسماع الدفوعات في كل جلسة، أما السبب الآخر فهو نقص القضاة وقلتهم في بعض المحاكم”.
وبحسب عبد الرحمن، فإنّ، “تأخّر البت في القضايا له أسباب عدة، أهمها الوضع الأمني الذي لعب الدور الأكبر في عرقلة القضايا، خصوصاً بعد تعرّض الكثير من المحاكم للقصف الذي أخرجها مؤقتاً عن العمل، والأمر الثاني هو نقص الكوادر القضائية، وخصوصا القضاة ما يحمّل القاضي العامل أعباء إضافية تحتاج منه وقتا أطول”.
لكن على الرغم من الغياب الأمني والفوضى الموجودة في المناطق المحرّرة، تمكّن كثير من المدنيين من الوصول لحقوقهم عبر المحاكم الثورية، كمحمد وهو مدني مقيم في كفرنبل، تعرّضت دراجته النارية للسرقة، فتقدّم بشكوى لإحدى المحاكم، وبعد عدة أشهر أبلغته المحكمة بالقبض على السارق، وإعادة حقه، فيقول لـ”الغربال” ألقت المحكمة القبض على لص اعترف بسرقة عدة دراجات إحداها دراجة سرقت من العنوان المذكور في الدعوى، وبعد إتمام إجراءات التحقيق تمّ التأكد من أنها دراجتي، وأن اللص قد باعها فألزمته المحكمة بتعويضي بثمن الدراجة، وتم تسليمي ثمنها داخل المحكمة من قبل القاضي”.
ومن جانبه يقول أبو الحسن، وهو قاضٍ في إحدى المحاكم الثورية، لـ”الغربال” على مدار السنوات التي عملت بها في هذه المحكمة، تمكنّا من حل مئات القضايا المقدمة إلينا، على الرغم من ظروف العمل القاسية، التي عشناها والتي كانت تبدأ باغتيال القاضي وتنتهي بقصف المحكمة ونسف ملفاتها”.

ويضيف “عملنا جاهدين على إيجاد نوع من التفاهم والتنسيق مع بقية المحاكم، بغية تخطي بعض العقبات التي تعترضنا، ونجحنا في ذلك”، مؤكداً أنّ، “وجود قوة تنفيذية في كل محكمة هو المطلب الأهم لنجاح القضاء، وحين تتواجد القوة التنفيذية ستزداد ثقة صاحب الدعوى بالمحكمة، لعلمه أن هناك جهة ما ستضمن له حقه”.

وبهذا نرى أنّ الحل الأمثل لنجاح العمل القضائي، هو إيجاد مجلس قضائي موحد تدعمه قوة تنفيذية موزعة على المناطق والمدن، تضمن للناس حقوقهم وتشعرهم ببعض الأمان الذي افتقدوه لأعوام طويلة.

التعليقات متوقفه