متى نكتسب ثقافة الاعتذار والمحاسبة؟

ليس في ثقافتنا العربية مفهوم الاعتذار وشجاعة تحمل المسؤولية، ووضع المخطئ أو المسيء نفسه تحت طائلة المحاسبة، ولا حتى جرأة الاعتراف بالخطأ أو التقصير، أو إساءة الفهم والتقدير.

بانكشاف أحوالنا كمجتمعات وتكوينات أهلية ومدنية ظهرت كل أمراضنا الموروثة و”التاريخية”، وانفضحت ازدواجية معاييرنا وقيمنا، وهي بالإجمال استبدادية، مرضية، إقصائية لا تعرف المراجعة أو إعادة التقييم، ويغلب عليها طابع التشبث والاعتداد بالنفس والتجربة، وإن كان ولابد فمن أجل الاستمرار والتأبيد، لا من أجل التصحيح وإعطاء الفرص للإصلاح والتغيير.

ليس في تاريخنا القديم أو الحديث سابقة واحدة لاستقالة جنرال هزم في حرب أو خسر معركة، وليس فيه مأثرة واحدة لتنحي زعيم حزب تسبب بفشل أو الحق خسارة بجماعته، ولا أقول خسر في انتخابات عامة، لأننا أصلا لم نعرفها في حياتنا المتيبسة والمتصحرة، ولم نرَ مثالا لمسؤول تحلى بالشجاعة واعتذر عن عجزه بالإيفاء بوعوده وعهوده، أو قائد بنى تقديراته على معلومات خاطئة، ولم نقرأ أو نعش في ظل حاكم أنهى ولايته ورحل دون ضحيج ، وهكذا.. إلا فيما ندر على خجل واستحياء.

في ظل “الثورة” التي تعد عملية تغيير طويلة وشاملة تطال كل مناحي الحياة وشؤون الثقافة والفكر، لم تبرز حتى الآن إرهاصات لذلك، تبشر بتبدل في أنماط السلوك والتفكير، ولم نرَ رجالا يقدمون أمثلة من النوع المذكور ليتعلم الناس منهم ويحتذوا حذوهم مستقبلا، رغم عديد الكوارث التي تسبب بها بعض من احتلوا مواقع المسؤولية والقيادة، ورغم فداحة ما تسببوا به من كوارث، ليس لسوء في التقدير وفشل في التخطيط، بل لقصور عند هؤلاء واستهتار بتضحيات الناس، فكان سمتهم العام الكذب العلني الموثق بالصوت والصورة، والفساد المفضوح بالأرقام والشهود!

على العكس من ذلك شهدنا سقوطاً عند أول امتحان لشخصيات كانت تحظى بالاحترام والتقدير، وشهدنا تناقضات بين الفكر والممارسة، وخطابات وممارسات تتماهى مع نظام ثار عليه السوريون متطلعين للحرية والكرامة والشفافية.

في واقع مرير وحصاد مر لفشل نخبة من (أهل السياسة والثقافة، أو هكذا يفترض) على مدى السنوات الماضية، ولا أتحدث هنا عن المتسقلين والانتهازيين، لم نر من يحترم نفسه وتاريخه وعقول الناس ووعيهم ليقول كلمة واحدة تحفظ له مكانة ضيعها أو احتراما فقده، وكل ما نراه في واقعنا من مشاهد ومواقف وكتابات وتصريحات يتراوح بين المداورة والمناورة ليبقى أصحابها في المشهد محاطين بهالات التبجيل والعبقرية التي يدعونها لأنفسهم.

لا غرابة في ذلك ولا هو طارئ، فهو نتاج بنية وثقافة تصر على قلب الهزيمة نصرا، والكذب ضرورة، والفشل أمرا طبيعيا مصدره مؤامرة خارجية أو عوامل محيطة.

مناسبة الحديث ما نسمعه من مواقف جديدة عبر وسائل مختلفة، من هذا وذاك، كانوا سببا مباشرا في المأزق الحالي والمآلات المحزنة لحالنا، رأى أحدهم أنها ترقى الى درجة “الاعتذار” دون التقدم الى استعداد للمساءلة والمحاسبة، وفي إصرار وعناد على “فذلكة” الأحداث والوقائع الدامغة.

نحن بحاجة إلى تغيير في نمطية التفكير والسلوك والتخلي عن ثقافة وفقه التبرير، وتربية ذواتنا وأجيالنا القادمة على نبل الأخلاق التي تعني روادع ذاتية وضمائر حية كسلطة داخلية تسبق أي منظومة قوانين نحتاجها لا تسمح للنفوس الأمارة بالسوء بفعل فعلها، وللشخصيات المتمسكة بأزلية مواقعها، والاستعداد الدائم للخضوع للسلطة المعنوية للناس باعتبارهم مرجعا أعلى ومصدرا لكل السلطات.

ليس في تجارب هؤلاء “العظماء” ومساراتهم “التاريخية” ما يعلي من شأنهم ليكونوا فوق المراجعة والمحاسبة وليقال لهم (لا تعتذروا عما فعلتم) فذاكرة الشعوب ليست للنسيان.!! ولقد استمعت للبعض ممن ينطبق عليهم ما قلت وزاد في غرابتي عجرفة ردودهم وإصرارهم على أن الباطل لا يأتيهم لا من أمامهم ولا من خلفهم ولا من بين أيديهم! إضافة لعدم إيمانهم بسنة من سنن الخلق والطبيعة بمحدودية عطاء البشر وسقوف امكاناتهم وأداءهم، وضرورة التوقف عند مرحلة ما، وزمن ما، وإفساح المجال لغيرهم.

تقتضي حالتنا مراجعات عميقة تبدأ بالإنسان ذاته ومن تلقاء نفسه، فالثورة أنهت منظومات قيمية كاملة، ومفاهيم راسخة استقرت لعقود وأجيال.

 

التعليقات متوقفه