محورية الفصائل على حساب الثورة السورية

أعلنت الثورة السورية أهدافها  كاملة منذ أسابيعها الأولى، وسبق ذلك إعلان جزئي لبعض تلك الأهداف، كالمطالبة بالحرية في نداءات المتظاهرين الأولى، بينما تأخر التصريح بهدف إسقاط النظام بعض الشيء للتأكد من جهوزية الشعب السوري لتحمُّل المواجهة، وقد كانت “الحرية” في مقابل “بشار” في شعار (الله – سورية – حرية وبس، في مقابل شعار: الله – سورية – بشار وبس) تلميحٌ سرعان ما تحوَّل إلى تصريحٍ يطالب بإسقاط حكمه، والحقيقة أن أهداف الثورة كانت تدور في خَلَد تيار عريض من الشعب السوري بالتزامن مع انطلاق ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا.

وعلى هذا، فلم تكن الثورة في أي لحظة من لحظاتها بدون تصور عن النمط الذي تريده لسورية، فكان من أهدافها: إسقاط حكم آل الأسد، وتفكيك منظومته الأمنية، وإطلاق الحريات، وعودة المهجَّرين، وبناء دولة مدنية تحتكم للصناديق في اختيار نظام حكمها وقوانينها.

بالإضافة إلى إعادة بناء المؤسسات العسكرية والأمنية والمدنية بمعايير وطنية، بعيدة عن الولاءات الطائفية، والتوافق على قاعدة “الثورة تجبُّ ما قبلها” والترحيب بأي شخصية تعلن الانشقاق عن نظام الأسد.

ومن ثمّ التعاون مع جميع أطياف الشعب السوري، والإقرار بتنوع مشاربه وأفكاره، وتحييد من يمكن تحييده للتفرغ للصراع مع الأسد.

كما اختارت الثورة راية جامعة لها، متمثلة بعلم الاستقلال، وبدأت المحاولات لتشكيل بدائل سياسية يمكن أن تسد أي فراغ في تمثيل سورية في المحافل الدولية، وقد تحصَّل لها ذلك مثلاً بتمثيل الشعب السوري في قمة الدوحة، واعتماد سفراء في بعض الدول، صحيح أن الظروف اللاحقة لم تسمح بالنجاح؛ لكن ما يعنينا أن الهدف كان واضحاً.

بهذه الأهداف المدنية استطاعت الثورة أن تلامس شغاف قلوب أكثر أبناء الشعب السوري في الداخل والخارج، فتمكنت من الصعود والصمود واختراق نظام الأسد في مواضع لم تكن تخطر بباله أن تثور ضده أو ترفضه.

ولكن قُدِّر للثورة السورية أن تطول، لأسباب معلومة للجميع، مما أدى لبروز بعض التهديدات التي كان على الثورة مواجهتها، لكن التهديد الأكبر لها والذي أصابها في الصميم، هو انتقال أكثر الفصائل من أهداف وغايات الثورة العامة والجامعة والمدينة المقبولة من عشرات دول العالم، فضلاً عن أغلب الشعب السوري، إلى تكوين غايات وأهداف فصائلية.

فنتج عن ذلك، تعدد في الرؤى لصورة سورية بعد الأسد، وتضارب بين أهداف الفصائل بينياً مع بعضها، ومع بعض أهداف الثورة العليا، بالإضافة إلى الانتقال من خطاب الثورة الجامع، إلى الخطاب الفصائلي الضيق.

ورغبة في التمايز اختارت الفصائل رايات لها، متجاوزة راية الثورة الأولى، ثم تعاملت بعض الفصائل مع الجغرافية التي ترابط فيها كمناطق نفوذ تحاول فيها تطبيق مشروعها الفصائلي، ونظراً لقصور هذه المشاريع فقد نتج عنها تململ من الحاضنة الشعبية للثورة من هذه الفصائل وسلوكياتها.

وقد اتسمت هذه المرحلة بتوجس من الآخرين ولو كانوا شركاء في الثورة، بل وفي الرباط، فعملت الفصائل على تكوين هرمية مؤسسية شمولية لها أجنحة إعلامية وسياسية وعسكرية خاصة بها، رافضة بذلك مؤسسات قوى الثورة والمعارضة السياسية التي حظيت بنوع من القبول دولياً.

والأخطر من ذلك أن الولاء للفصيل، صار مقدماً على أي ولاء آخر، مما يفسر لنا التهاون في الانخراط في الصيالة على الآخرين، بل وفي أحلك الظروف، دون مراعاة لبنوة الثورة، وأخوة السلاح، وتربص الأعداء.

صحيح أن بعض الفصائل عملت على مراجعات فكرية لمسارها، نتج عن ذلك بعض التقدم البطيء في العودة نحو خطاب الثورة الأول، لكنها ما زالت بعيدة.

والمشكلة الكبرى أن الثورة السورية ليس عندها الرفاهية للسماح بإعطاء وقت مفتوح لهذه الفصائل حتى تصل بمراجعاتها إلى الحق، فالوقت من دم، والظروف الداخلية والخارجية لا سيما بعد نكبة حلب، وبروز نوع من الحكَّام الغربيين المستعدين لمد اليد للديكتاتوريات في بلداننا، تحتم علينا حسم خياراتنا، فإما العودة إلى محورية الثورة في المبدأ والغاية، وإما الذهاب إلى ما بعد إدلب!

التعليقات متوقفه