عبد الكريم أبا زيد بين مأساة الحياة وملهاته .. محمود الوهب

بداية لابد لي من الإشارة إلى أنَّ السخرية بفضائها العام هي فلسفة عميقة يستخدمها المعارضون على مرِّ التاريخ، إيماناً منهم بتأثيرها في الآخر، فهي كسوط اجتماعي أقوى من سياط الجلادين وأجدى، وذلك بتهذيبها سلوك الناس وتقويمه، والسمو به عبر تعريضها بسوءات الواقع وسلبياته، ناهيكم بما تخفف عن روح صاحبها من أثقال. أعود إلى موضوعي لأقول:

من الخصال الكثيرة، غير الحميدة في سلوك الإنسان، أنه لا يمنح أخاه الإنسان في حياته، قيمته الحقيقية، وبما يمليه الواجب الإنساني والاجتماعي، وعلى ذلك، فإننا نجد الكثيرين من الناس لم ينالوا نصيبهم، كما غيرهم، من الشهرة أو التكريم في حياتهم، رغم إبداعهم المميز الذي لم يأت لتحصيل شيء ما لأنفسهم، كما هو معهود في عرف أغلب الناس، بل لإيمان منهم بجعل الحياة أكثر جمالاً ومتعة، فلم التَجاهُل إذاً؟!

قد يعود الأمر، في اعتقادي، لفقر مادي يعانيه الإنسان المُتَجاهَل، أو لبساطة في أسلوب عيشه، أو لتواضع في علاقاته الاجتماعية. وربما لخوف من سلطة قمعية تلاحقه، فترى الآخر يغمض العين عن الحال كلها. “ويا دار ما دخلك شر!” وأخيراً قد يكون مردُّ الأمر إلى التنافس الذي يخرج عن براءته في كثير من الأحيان؟!

لست، على كل حال، بصدد تحليل هذه الظاهرة، بقدر ما لديَّ من رغبة في إلقاء ضوء على شخصية من هذا النوع وردني نبأ مغادرتها دنيانا..

إنَّه الصديق “عبد الكريم أبا زيد” الذي لم يكن قادراً على تسويق نفسه ككاتب، ولعله لم يسع إلى ذلك الأمر، وربما لم يفكر، إطلاقاً، باتخاذ الكتابة مهنة له، وأعتقد لو أنَّه فعل، لكانت له الشهرة الذائعة في عالم الأدب الساخر! فما يميز عبد الكريم أبا زيد، لا نقده الموجع، ولا مرارة الضحك الذي يحدثه فحسب! بل في قدرته، كساخر معارض بالفطرة، على التقاط المفارقة السلبية المغلَّفة بورق “السيلوفان،” وعرضها بأسلوب سلس، يفضح طباع أصحابها، من جبن وبخل وجهل وأنانية وانتهازية وكسب وتسلط..! إلى آخر ذلك من طباع بشرية مرذولة.

 عايشت عبد الكريم أبا زيد عن قرب زمناً غير قصير خلال عملي في جريدة النور، وانقطعت عنه قبل عام 2011 بسنوات إذ لم أعد أراه أو أسمع صوته إلا لماماً، وكم كنت راغباً في رؤيته والاستماع منه إلى بعض دعاباته حول ما آلت إليه السلطة، بعد ذلك التاريخ، من بؤس في عين الشعب، وكيف أخذت أجهزة استخباراتها وإعلامها المزيف يمررون الأكاذيب، فاضحين جرائمها ضد أبناء الشعب على نحو يثير الاشمئزاز من بؤس وغباء! فمن هو عبد الكريم أبا زيد؟!

  تقول بطاقة تعريفه: إنه مولود عام 1934 في مدينة درعا جنوب سورية، وهي المدينة التي اندلعت منها الثورة السورية الحديثة في إطار ما سمي بالربيع العربي الذي كشف الستار، وبغض النظر عما آل إليه، وبسبب تكالب أمم الأرض عليه، عن جوهر ما يحتاجه العرب ليحققوا لأنفسهم المكانة اللائقة بين الأمم، وليرتقوا سلّم الحضارة المعاصرة.

عبد الكريم أبا زيد معارض بفطرته إذ اعتقل في اليوم الأخير من عام 1958 في حملة اعتقالات طالت الشيوعيين. وأفرج عنه في 31/12/1961 أي بعد ثلاثة أشهر من انقلاب الانفصال عن دولة الوحدة السورية المصرية، وواضح من التاريخين أنه أمضى في السجن ثلاث سنوات كاملة! بعد سجنه غادر إلى الاتحاد السوفييتي لمتابعة دراسته، فتخرج في جامعة موسكو حائزاً على شهادة الماجستير في العلوم الاقتصادية عام 1971، ولدى عودته عمل في هيئة تخطيط الدولة لمدة ثلاثين عاماً. وقد أخذ يكتب في الصحافة السورية في وقت متأخر، ولعلَّ زاويته الصحفية “دبابيس” التي واظب على كتابتها مدة عشرين عاماً هي الأكثر قراءة في جريدة نضال الشعب شبه السرية، وهي الجريدة التي كان يصدرها الحزب الشيوعي، وكان محرَّماً عليه عرضُها في الأكشاك، رغم عضويته في الجبهة الوطنية التقدمية التي واجهة للحاكم، وغطاء لما يزعمه من “شرعية” و”ديموقراطية” و”تعددية حزبية”. وكم علَّق عبد الكريم على هذه المهزلة. بينما لم يكن الحاكم يمنح تلك الأحزاب حق إصدار جريدة علنية، بل لم تسمح أجهزة مخابراته لأعضاء أحزاب الجبهة حمل صحفهم ومطبوعاتهم عموماً على نحو علني، ولعلَّ هذا الأمر كان السبب المباشر لمغادرة المرحوم جمال الأتاسي قيادة الجبهة، وعلى خلفية الصراع في حزبه حول المادة الثامنة من دستور 1973، وتحوُّله للمعارضة، بعد تسليمه مفاتيح السيارة ومكتبه في الجبهة إلى فوزي الكيالي الذي غادر أيضاً، بعد حين، إلى أمريكا تاركاً قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي إلى صفوان القدسي أكبر مداهن للدكتاتورية عرفه التاريخ السوري المعاصر. بينما نُقِع جمال الأتاسي في السجن مع رفاقه سنين طويلة.. وكتب أبا زيد في الصحافة اللبنانية، كما كانت له زاوية ثابتة على مدى عشر سنوات في جريدة “العرب اليوم” الأردنية. كما قام بترجمة عدة كتب عن اللغة الروسية منها: “جدوى توظيف رؤوس الأموال”، و”الأكراد ما بين القرنين السابع والعاشر” و”دروس الحياة” لـ “غينادي زيغانوف” إضافة إلى مؤلفه: “شر البلية” الذي قدَّم له الدكتور عبد الكريم الأشتر. وأبا زيد عضو في اتحاد الكتاب العرب في سورية (جمعية الترجمة). وقد أخذ ياسر العظمة من كتابه “شر البلية” عدة زوايا جعلها حلقات في مسلسله الشهير “مرايا”.

 وبعد لو كان المجال يسمح لاستعرضت الكثير من مقالاته.. لكنني سأكتفي بجزء من مقالة له نشرته جريدة النهار اللبنانية يوم 14 آب 2013 وهي عن حالة الطوارئ التي كانت هاجس الكاتب ووجعه الرئيس وكثيراً ما كان يشير إليها:

“الآثار النفسية المدمرة لحالة الطوارئ

منذ مدة كنا شلة من المثقفين والصحافيين مجتمعين عند أحدهم. كنا من مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية، قال أحدهم بنبرة ملؤها الثقة بالنفس: تريدون الحقيقة! شعبنا لا يستحق الحرية وهو غير مؤهل لها! نحن شعب يستحق “الدعس بالصرامي”! إن الرئيس بشار كان رحيماً مع “العصابات المسلحة” أكثر من اللازم! ولو تعامل مع أهالي درعا كما جرى التعامل مع أهالي حماة قبل أكثر من ثلاثين عاماً لخمدت الثورة في مهدها، ولما تكبدنا كل هذه الخسائر في الأرواح والممتلكات!

 المصيبة أنه كان مقتنعاً بما يقول وليس منافقاً! وهذا هو التأثير المخرّب للعقول الذي أحدثته حال الطوارئ!

سألته: تقول إن شعبنا لا يستحق الحرية، ولكن هل جرّبتم طوال نصف قرن إعطاءه الحرية لتعرفوا إن كان يستحقها أم لا؟ ثم هل هناك شعب في العالم غير مؤهل للحرية؟ لو سلّمنا جدلاً أن شعبنا غير مؤهل لممارسة الديموقراطية وتداول السلطة، فهل يصبح مؤهلاً لها عن طريق القمع والسجن والقتل تحت التعذيب؟! إنك بحكمك هذا كمن يقول: لا أريد أن أرسل ابني إلى المدرسة لأنه لا يعرف القراءة والكتابة، ومتى أصبح يعرفها سأدخله المدرسة. هل تعلم يا عزيزي أن أول شعار رفعه أهالي درعا أثناء تظاهرتهم الأولى كان “الحرية والكرامة”؟! وعندما لمَّحت الصحف إلى إمكان زيادة الرواتب لإسكات الناس، كان الشعار الذي رفعه المتظاهرون في درعا، وأنا كنت مشاركاً في التظاهرة، هو “الشعب السوري مو جوعان بدّو حرية وأمان!”.

قال آخر: ألا تعتقدون أن ما يجري في سوريا هو مؤامرة إمبريالية صهيونية تموّلها دول الخليج؟! أعطوني ربع المبالغ لأشعل لكم ثورة في سويسرا! المصيبة أنه قالها جادّاً.

ألم أقل لكم إن حال الطوارئ خلقت جيلاً مشوّه التفكير؟! إن المتملق أقل خطراً، فهو يمشي مع التيار، أما الآخر فإنه يقاتل بقناعة وشراسة دفاعاً عن النظام الدكتاتوري.

سألته: كيف ستشعل ثورة في سويسرا عن طريق توزيع الدولارات، ما دام نظامها ديموقراطياً، ويجري فيه تداول السلطة من طريق الانتخابات والحزب الحاكم هناك لا يتمسك بالسلطة ويقول: “إما أنا وإما لا أحد! إما أنا وإما أدمّر البلد”؟! إننا فعلاً أبناء طوارئ!”

وأخيراً أكثر ما يؤلم أن قيادة الحزب الذي يصدر جريدة النور قد منعت أبا زيد، بعد إيقاف زاويته طبعاً، من دخوله مقر الجريدة، وكانت زاويته إلى جانب زاويا خطيب بدلة وأحمد الغفري وتاج الدين الموسى تحمل الجريدة، وقد كان منعه قبل العام 2011 تحت مزاعم واهية، بينما السبب الأساسي يكمن في كثرة انتقاده لمواقف الحزب الرجراجة، وربما جاء المنع لانضمامه في تلك الأيام إلى حزب الشعب الديمقراطي المعارض، لروحك الرحمة والخلود يا عبد الكريم.

التعليقات متوقفه