ظروف الحرب تقضي على صناعة الآلات الموسيقية في حلب – عبد الغني العريان

شكّلت حرفة صناعة الآلات الموسيقية وخصوصاً الشرقية منها معلماً أساسياً من المعالم الثقافية والسياحية لمدينة حلب، فأسواق حلب القديمة كسوق جادة الخندق كانت مليئة بالمحلات التي تبيع الآلات الموسيقية، وخصوصاً الأعواد الحلبية التي كانت تحتل أحد المراكز الأول عربياً نظراً لمهارة صانعيها.

تعرضت حرفة صناعة الآلات الموسيقية كمختلف الحرف السورية لانتكاسة كبيرة خلال سنوات الحرب الأخيرة حتى باتت هذه الصناعة مهددة بالانقراض، فورش تصنيع الآلات الموسيقية بحلب توقفت بالكامل، ويصعب تحديد عدد الورش التي توقفت عن العمل، فالإحصاءات عن واقع هذه الحرفة والعاملين فيها غائبة تماماً، ذلك أن اتحاد الحرفيين السوريين لا يضم حرفيي الآلات الموسيقية، وهو بالتالي لا يملك أي معطيات دقيقة عن واقع تراجع هذه الحرفة.

ارتفاع أسعار المواد الأولية ساهم في تراجع صناعة الآلات الموسيقية

لم يقتصر التقصير الحكومي بدعم صنّاع الآلات الموسيقية على عدم ضمهم إلى اتحاد الحرفيين فحسب، إذ أن حكومة النظام السوري لم تقدم أي دعم للمنتجين، ولم توفر لهم المواد الأولية اللازمة لاستمرار ورشهم، خاصة فيما يتعلق بالأخشاب اللازمة للصناعة، لاسيما أن ظروف الحرب حرمت الورش من مصدر أساسي للأخشاب، إذ تم نهب مستودعاتها وتعرضت أشجار الجوز التي كانت مصدراً محليا للخشب للقطع الجائر لتباع كحطب للتدفئة.

ارتفاع أسعار المواد الأولية ساهم بتراجع صناعة الآلات الموسيقية
ارتفاع أسعار المواد الأولية ساهم بتراجع صناعة الآلات الموسيقية

وبسبب ارتفاع تكلفة نقل الخشب من محافظات أخرى وندرة توفره، ارتفع سعر الخشب بما لا يقل عن خمس أضعاف، إذ يصل سعر المتر المربع من خشب الزان حالياً إلى نحو 174159 ليرة (523 دولارا)، وفي ظل صعوبة الاعتماد على الخشب المستورد بسبب ارتفاع ثمنه، أُجبرت ورش كثيرة على إيقاف عملها، ما دفع بعدد كبير من حرفييها إلى النزوح إلى دول الجوار للعمل، وهذا هو حال العازفين والموسيقيين أيضاً، فدمار قطاع السياحة وإغلاق المطاعم والنوادي دفع معظمهم لترك البلاد.

وعن تغيرات الأسعار يتحدث “عبدو”، صاحب أحد محال الآلات الموسيقية في حلب، للغربال قائلاً: الأسعار ارتفعت بشكل كبير، فسعر أوتار العود “لابيلا” كان 1660 ليرة (4.7 دولار)، واليوم لا يقل عن 4000 ليرة (11.9 دولار)، أما آلة “البيركشن” الإيقاعية فكان سعرها 80 ألف ليرة سورية (238 دولار)، وأصبح اليوم يقارب الـ300 ألف (952 دولار)، والأعواد التعليمية كانت بـ5500 ليرة (16.6 دولار)، وبات سعرها يقارب 12500 ليرة سورية (38 دولار)، كما بات سعر الأعواد الممتازة والتي تمتاز بمهارة تصنيعها وبخشبها المستخرج من شجر الجوز يصل إلى أكثر من 35 ألف ليرة (104.7 دولار) بعد أن كان سعرها لا يتجاوز 12000 ألف ليرة سورية (38 دولار). وكما أصبح سعر الغيتار الكلاسيك يتراوح ما بين 14-15 ألاف ليرة (38-42,8 دولارا)”.

ويشير “عبدو” إلى أنّ “حركة البيع خفيفة جداً ولا تقارن بما كانت عليه قبل الحرب، فمعظم مبيعاتنا حالياً تقتصر على الاكسسوارات كالأوتار والريَّش وغيرها، فالعازف اليوم يفضل إصلاح آلته القديمة على شراء أخرى جديدة، مع العلم بأن الكثير من القطع المتعلقة بآلات الكمان والبيانو والدرامز مفقودة ولا تتوفر لدى جميع المحلات، وزيادة أسعارها لا تقل عن 300%.

المعاهد الموسيقية تتراجع في ظل الحرب

الواقع المتردي الذي تعيشه صناعة الآلات الموسيقية وسوقها، أمتد أيضا ليشمل معاهد الموسيقى التي تراجع عدد طلابها بشكل كبير، ويشير ابراهيم وهو مدرس موسيقى في حي الفرقان بحلب، إلى أن “معظم الأهالي توقفوا عن إرسال أبنائهم لتعلم الموسيقى في المعاهد، والتي ارتفعت أقساطها الشهرية لتصل إلى 3000 ليرة، بعد أن كانت سابقاً لا تتجاوز 1000 ليرة “، يضيف ابراهيم: “دراسة الموسيقى تحتاج إضافة إلى رسم التسجيل الشهري، إلى تكاليف أخرى لشراء الآلة الموسيقية وإكسسواراتها والنوط وغيرها، أدى كل ذلك لانخفاض أعداد مرتادي المعاهد بسبب سوء أحوال المعيشة، وقد تسبب ذلك بخسارة الكثير من المدرسين لعملهم، ذلك أنّ المعاهد باتت تقلص عدد أساتذتها، وتلجأ إلى بيع الأدوات الموسيقية المستعملة للحد من خسائرها.

داعش يحرّم الموسيقى

يحرم تنظيم الدولة الاسلامية “داعش” الموسيقى بجميع أشكالها في المناطق التي يسيطر عليها، حيث أعلن “داعش” في بيان نشره منذ سنتين أنه أصدر قراراً بمنع بيع أقراص الغناء وآلات الموسيقى وتشغيل الأغاني في السيارات والحافلات والمحلات وغيرها من الأماكن.

ويقول “أحمد” وهو عازف على آلة العود ومقيم في منبج: “إن الموسيقى والغناء لا تحتاج لفتوى أو جدال أو نقاش أو تحريم أو تحليل، إنما هي لغة يفهمها الخلق كلهم وتسمعها كل الآذان وليس من حق أي شخص في العالم ولوكان فقيهاً معمماً موسوعياً أن يحدد لك الحلال والحرام بخصوصها، كما أن التراث الإسلامي في عهد الدول الأموية والعباسية والأموية الأندلسية مليء بالعازفين الذين كانوا لا يغادرون بلاط الخلفاء، فهل كان هؤلاء الخلفاء كفاراً؟”. يضيف أحمد: “لو أطلق مسلحو داعش الرصاص على كل الآلات الموسيقية فالموسيقى باقية ما بقي العقل والفؤاد والمنطق والتسامح والحب والإيمان كمراجع للبشر في التعرف على نعمة الخالق، معركة داعش ضد الموسيقا هي معركة خاسرة، حتى لو التف حول تحريم الموسيقى والغناء ملايين من مؤيدي داعش فإنهم سيكتشفون في النهاية أنهم يحاربون في المكان الخطأ، تاركين ساحة المعركة الحقيقية في جهاد النفس، أي مجابهة الفساد، والالتزام بالعمل ستين دقيقة في الساعة، واحترام الكتب والثقافة، وازدراء الأمية والتخلف، وتوجيه كل القوى لمواجهة المخدرات والغش والنصب والاحتيال، والعمل على إحياء حرية الفكر وقبول الأخر”.

محاربة صناعة الآلات الموسيقية امتدت إلى مناطق سيطرة الثوار

كانت ورش صناعة الآلات الموسيقية مكانا لتجمع الأصدقاء
كانت ورش صناعة الآلات الموسيقية مكانا لتجمع الأصدقاء

يقول ابراهيم، الذي يبلغ من العمر 43 سنة، وهو صاحب أكبر ورشة لصناعة الأعواد في حلب سابقاً, إنه استأجر مستودعاً كان يستعمل كمخزن للأخشاب، بعدما طارده مقاتلون ملثمون محسوبون على قوات الثوار بحلب لأنه صانع أعواد، كان ابراهيم يحاول أن يظهر للغربال كيف تعرض لاعتداء جسدي، بسبب ممارسته مهنته “المحرمة”، نزع ابراهيم جزءاً من قميصه ليظهر آثار ضرب بآلة حادة.

في المحل البعيد عن الأنظار، ثمة أعواد كثيرة، بعضها معلق على الجدران، فيما تتكدس أخرى لم تكتمل بعد، على الأرض، يقول ابراهيم للغربال: كان محلي التجاري في منطقة الكلاسة بحلب مفتوحاً طوال اليوم، كان مزاراً للأصدقاء، غالبيتهم يدرسون الموسيقى في كلية الفنون أو بأحد معاهد الموسيقا المنتشرة بحلب، كان هذا قبل أن تتغير ملامح الحياة بالمدينة”.

يتابع ابراهيم: دخل ملثمون المحل وطلبوا مني إغلاقه، أوالتوقف عن صناعة العود, قالوا لي: لمَ لا تبيع السكاكر؟ دفع الخوف من التصفية ابراهيم إلى إغلاق المحل بالفعل، لكنه نقل حرفته إلى منزل عائلته الصغير في قرية قورقنيا بريف ادلب.

يقول ابراهيم: من سوء حظي فقد كشفوا أمر ورشتي فاعترضوا طريقي، بعدما اقتحموا المنزل وحطموا معدات العمل وضعوني في غرفة مظلمة, حملني رجل ضخم ملتحٍ وقال لي سأعزف لك لحناً لن تنساه، ربما كانوا يرغبون بمنعي من صناعة الآلات الموسيقية حين وضعوا أصابعي على مكواة.

يقول ابراهيم إنه تجاوز تلك الأيام، وهو يعتبر أنه ثمة فرصة لكي يواصل العمل، فهو يحب آلة العود، ويعرف أن الكثير من الموسيقيين السوريين ينتظرون منه عوداً حلبياً راقياً.

كما التقت الغربال مع سمير الأكتع وهو أحد العازفين في مدينة سلقين، روى الأكتع قصته قائلاً: “أعزف العود منذ اكثر من 15 سنة, كنت أعزف بالحفلات والمهرجانات، حين التحقت بالثورة كان عودي معي دائماً حتى وأنا في المظاهرة، كان أصدقائي يطلبون أن يكون العود معي لأعزف وأغني بالمظاهرات، فيما بعد أصبحت ألحن أغاني خاصة للثورة فلحنت أكثر من 14 أغنية, لكن حين دخلت الثورة حكمها الاسلامي لم يكن يوجد امكانية بالتلحين بعد الضغوطات التي واجهتني فهم يريدون أغاني دون موسيقى أي بدون عزف على آلات موسيقية وهذا مستحيل, في هذه الفترة أصبحت اعزف على العود في الغرف المغلقة كي لا يتم زجي بالسجن فقط لأني أعشق الموسيقى وأعزف العود وحتى وإن كنت اعزف للثورة السورية فسوف يعتقلونني, أصبحت أعزف بصوت منخفض فقط كي أسمع دون أن أدخل نفسي بمتاهات قد تنتهي بسجني أو قتلي”.

لا توجد إحصاءات عن ضحايا العنف من الموسيقيين، أو المنخرطين في صناعة الآلات الموسيقية، لكن عدداً منهم قضى بسبب أعمال عنف من النظام السوري أو من قبل الإسلاميين المعارضين لنظام الاسد، أدى ذلك بالمجمل إلى تحجيم صناعة الآلات الموسيقية وربما القضاء عليها، فالكثيرون من أرباب المهنة فضلوا العمل في بيوتهم، أو نقل أعمالهم إلى تركيا.

أصبح سمير أكتع يعزف على عوده في بيته فقط
أصبح سمير أكتع يعزف على عوده في بيته فقط

التعليقات متوقفه