أسواق المستعمل بحلب ساحة لتصريف المسروقات

البضائع المسروقة كانت عماد تجارة البضائع المستعملة في حلب وريفها حيث ساهم انتشار ظاهرة سرقة البيوت والمستودعات والورش الصناعية الخالية بزيادة حجم تجارة البضائع المستعملة ولم تخضع هذه التجارة لأي شكل من الرقابة فالعاملون بها يعملون بدون ترخيص من أي جهة الأمر الذي سمح للصوص بتحويل أسواق البضائع المستعملة وتجارتها إلى ميدان لتصريف مسروقاتهم

حلب – محمود عبد الرحمن

“مكفولة من الحرام” هي العبارة الوحيدة التي يستخدمها بائع البضائع المستعملة أو المجهولة المصدر لكفالة بضاعته لمشتريها، المفروشات والكهربائيات والنحاسيات وحتى أدوات المطبخ هي عماد تجارة المستعمل في حلب وريفها، وقد انتشرت هذه التجارة في جميع مناطق حلب وريفها حتى باتت أحياء حلب وبلدات ومدن ريفها تكاد لا تخلو من محلات بيع البضائع المستعملة أو مجهولة المصدر.

انتشار السرقة أنعش أسواق المستعمل بحلب

تجارة البضائع المستعملة كانت موجودة في حلب على نطاق ضيق إلا أنها انتشرت بشكل غير مسبوق منذ سيطرة قوات الجيش السوري الحر على مساحات واسعة من مدينة حلب في شهر تموز عام 2012، حيث تسبب القصف العشوائي الذي شهدته هذه الأحياء بنزوح معظم سكانها عنها ما فسح المجال بشكل واسع أمام انتشار ظاهرة سرقة البيوت والمحلات التجارية والمستودعات والورش الصناعية التي تركها أصحابها إثر نزوحهم.

كان نزوح السكان العامل الرئيس الذي أدى لزيادة نشاط اللصوص في أحياء حلب وبالتالي قدم هؤلاء المزيد من البضائع المسروقة لمحلات البضائع المستعملة التي تجمّع كثير منها فيما بعد ليتحول لأسواق كبيرة كسوق الفردوس في القسم الشرقي من مدينة حلب.

أبو ابراهيم أحد عناصر الجبهة الشامية، وهي أحد أكبر فصائل الثوار في حلب،  يؤكد للغربال أن بقائه في حارته بحي طريق الباب شمال شرق حلب منع اللصوص من سرقة بيوتها الخالية، على عكس حارات أخرى في أحياء حلب تمت سرقة بيوتها الخالية من أصحابها من قبل مجموعات محسوبة على فصائل الثوار بحجة أن صاحب البيت “شبيح” أو “ضابط”، وهي في الغالب حجج واهية وحتى إن صحت فهي لا تبرر سرقة محتويات البيت وبيعها بسعر بخس، عرفت هذه الظاهرة فيما بعد بين السكان باسم “التشبيح” أي إلصاق صفة الشبيح بشخص بهدف سرقته، أو “التشويل” وهي كناية مشتقة في الأصل من وضع الشيء في “الشوال” كما يفعل اللصوص!

انتعشت تجارة المفروشات المستعملة بعد نزوح سكان حلب عن بيوتهم
انتعشت تجارة المفروشات المستعملة بعد نزوح سكان حلب عن بيوتهم

يتابع أبو ابراهيم: استغل  كثير من ضعاف النفوس من سكان المناطق التي سيطرت عليها فصائل الثوار بحلب حالة الفلتان الأمني أيضاً، حيث كانوا يقومون بنقل أغراض سرقوها من بيوت جيرانهم الخالية على أساس أنها من أثاث منازلهم في سيارات، ليقوموا ببيعها في أحياء أخرى أو في مدن وبلدات ريف حلب. يقول أبو ابراهيم: تم ضبط أكثر من حالة يقوم فيها أحد الجوار بفتح جدار منزله على بيت جاره النازح ليسرق أغراضه، ثم يقوم بعد ذلك بنشر شائعة في الحي مفادها أن قوات الثوار المنتشرة في الحي قامت بسرقة بيته وبيت جاره، بعد أن يبيع محتويات البيتيّن! انتشرت هذه الظاهرة بشكل واسع في حي مساكن هنانو مثلاً الذي لم يكن على الإطلاق على خط الاشتباك بين قوات الثوار وقوات النظام لتضطر قوات الثوار لاستخدام تكتيك إنشاء فتحات في الجدران للتنقل بين البيوت كما تفعل على خطوط الجبهات.

وكان لحملة القصف بالبراميل المتفجرة التي شنتها طائرات النظام السوري على الأحياء التي تسيطر عليها قوات الثوار حلب منذ أواخر عام 2013 إلى اليوم دور كبير في ازدياد الهجرة من هذه الأحياء وبالتالي زيادة نشاط اللصوص وتدفق مزيد من البضائع إلى أسواق المستعمل.

تشكلت فيما بعد شبكات من عصابات اللصوص لسرقة البيوت الخالية كان لكل منها اختصاص بسرقة أنواع معينة من محتويات البيوت، في البداية كانت العصابات تبحث عن المصاغ الذهبي والأموال والتحف والساعات الغالية والنحاسيات وغيرها من الأشياء خفيفة الوزن غالية الثمن، في مرحلة تالية تشكلت عصابات لسرقة الأدوات الكهربائية ثم عصابات لسرقة الزجاجيات ومن ثم المفروشات وأخيراً تركز نشاط العصابات على سرقة خلاطات المياه وأجزاء التمديدات الصحية الظاهرة وقامت العصابات بفك الأبواب وسحبت كابلات الكهرباء من الجدران حتى عادت البيوت الخالية على العضم! حصل كل ذلك بالتعاون مع كثير من الفصائل المسلحة التي قدم بعضها تعهدات للعصابات، بحيث يقبض الفصيل مبلغاً مالياً من العصابة مقابل سماحه لها بنهب محتويات معينة من البيوت الخالية في المنطقة التي يسيطر عليها.

أسواق المستعمل كانت مكان تصريف البضائع المسروقة الرئيس في حلب وأشهرها سوق طريق الباب الذي نشط خلال عامي 2012 و2013 وسوق الفردوس للبضائع المستعملة والذي يطلق عليه سكان حلب اسم “سوق الحرامية” كانت تباع فيه جميع أنواع البضائع المستعملة وخاصة النحاسيات والتحف والكهربائيات والمفروشات ووصل الأمر إلى بيع الملابس المستعملة وعلب المنظفات إلى أن انحسر نشاطه قبل أشهر على بضع بسطات قليلة تعتبرها الجهة العسكرية التي تسيطر على الحي موثوقة ولا تبيع المسروقات بحسب سكان الحي.

ظروف غامضة تحكم عمل أسواق المستعمل

لا توجد آلية واضحة لعمل أسواق المستعمل، فليس من الواضح من أين يحصل أصحاب المحلات على بضائعهم, يدعي بعضهم أنهم يشترونها من أصحاب البيوت مباشرة، “الأحدعشري” صاحب أحد محلات المستعمل في حي طريق الباب بحلب قال للغربال عند سؤاله عن  مصدر بضاعته: “إذا أردتم يمكن أن نذهب إلى صاحب البيت الذي عرض أغراضه للبيع وبإمكانكم التأكد بأنفسكم من سكان الحي أنه صاحب البيت الحقيقي ومن ثم تشترون البضائع منه بعد أن يوقع على فاتورة البيع”.

هذا الكلام غير دقيق بحسب أحد عناصر المؤسسة الأمنية في حلب الذي قال للغربال: “أصحاب محلات المستعمل يشترون البضاعة من أي شخص يعرضها عليهم سواء كانت مرفقة بورقة من المحكمة الشرعية أم لا، لا أحد منهم يهتم بمصدر هذه البضاعة خاصة مع عدم وجود أي رقابة عليهم”.

الكهربائيات المنزلية متواجدة بقوة في أسواق المستعمل
الكهربائيات المنزلية متواجدة بقوة في أسواق المستعمل

يتخذ أصحاب محلات المستعمل من الورقة “الشرعية” وثيقة تثبت شرعية شرائهم للبضائع المستعملة وعلمت الغربال من أصحاب المحلات أن هذه الورقة تصدر من الهيئة الشرعية التي تتبع للمؤسسة الأمنية منذ عام تقريباً، كما علمت الغربال أن الراغب بنقل أو بيع بضائع مستعمله عليه أن يصطحب معه شاهدين يشهدونأنه صاحب البيت أوالمستودع المراد نقل محتوياته ليحصل على ورقة “شرعية” تخوله نقل أغراضه أو بيعها مقابل رسم تقبضه “المحكمة الشرعية” قيمته 500 ليرة سورية.

ذهب فريق الغربال إلى الهيئة الشرعية ودخل إليها بعد تفتيشه مرتين، سأل الحراس الفريق عن سبب زيارته للهيئة فأجبناهم أننا نريد ورقة لنقل بيت فأرشدونا إلى المكتب المسؤول عن ذلك وهوالغرفة رقم (7) والتي اشتهرت بين السكان منذ أيام عمل معبر بستان القصر وكانت مسؤولة عن أذونات نقل البضائع بين طرفي حلب مقابل رسوم مالية.

طلب فريق الغربال ورقة لنقل بيت من حي الشعار فأجابنا الموظف المسؤول أنه علينا الحصول على ورقة من النقطة الأمنية التابعة للمحكمة الشرعية في الحي.

توجه فريق الغربال إلى النقطة الأمنية في حي الشعار والتي يترأسها المدعو أبوفيصل الذي أجاب حين سؤاله عن آلية العمل للحصول على هذه الورقة قائلاً: “عناصرنا سيذهبون مع صاحب البيت أوالمستودع إلى بيته ليتأكدواأنه صاحب البيت من الأوراق أومن سكان الحي في حال عدم وجودها وبناء على ذلك يحصل على ورقة يتوجه بها إلى الغرفة رقم (7) التي تمنحه إذن النقل”.

هذه الآلية التي يفترض أن تعمل وفقها النقاط الأمنية إلا أن السرقة ممكنة رغم وجودها، “إذا تمكنت من شراء النقطة الأمنية برشوتها تستطيع أخذ ما تشاء” حسب تعبير أبي فيصل.

المسروقات تصدّر إلى مناطق التي يسيطر عليها “داعش” وإلى المناطق الحدودية

كان لظهور تنظيم داعش دور في ازدهار تجارة البضائع المسروقة حيث تباع معظم البضائع التجارية والخام والكهربائيات وغيرها في مناطق داعش بأسعار أغلى من أسعارها في مناطق سيطرة الثوارإضافة إلى نقل بعض هذه البضائعإلى تركيا حيث تباع بأسعار مضاعفة وبغض النظر عن مصدرها يمكن إيصالها إلى هناك بحسب كثير ممن التقتهم الغربال.

ولمعرفة كيفية نقل البضائع توجه فريق الغربال مع سائق تكسي إلى دوار الحلوانية حيث تقف سيارات الشحن لتنتظر من يطلبها,سأل فريق الغربال سائقي الشاحنات عن إمكانية نقل كمية من القماشإلى مدينة الباب التي يسيطر عليها تنظيم “داعش” بدون أوراق أوفواتير كون صاحبها في مناطق سيطرة النظام ولا يستطيع القدوم إلى مناطق سيطرة الثوار، صعد معنا صاحب أحد سيارات الشحن وعرف عن نفسه باسم “أبو محمد” وطلب منا الابتعاد عن زملائه السائقين والحمالين وقال أنه يستطيع تنفيذ هذه المهمة “أنا أنقل لك ما تشاء بدون أوراق لكن عليك أن تدفع وإن شئت رافقني لتدفع للحواجز التي تيسر أمرنا بنفسكأو يمكن أن تعطيني المال وأنا أتكفل بكل شيء”.

اتفق فريق الغربال مع أبي محمد على أن ينقل البضاعة مقابل 35000 ليرة سورية كأجرة سيارة النقلو40000 ليرة ستدفع للحواجز ككلفة النقل بدون ورقة, وقال أبو محمد أنه قد يحصل على فاتورة أوورقة من الشرعية وهذا شأنه وليس من حقنا أن نتدخل في ذلك، وافق فريق الغربال وغادر المكان على أساس العودة مع البضاعة في وقت لاحق.

النحاس والحديد هي البضائع المُربحة

لا تستثني تجارة البضائع المسروقةأي نوع من المواد المتوفرة في حلب، إلا أن أكثرها ربحاً هوالنحاس حيث يتم شراؤه بأسعار قليلة تتراوح بين 700 ليرة سورية لكيلو النحاس الأحمر و500ليرة لكيلو النحاس الأصفر, ثم يتم بيعه بأسعار مضاعفة بعد نقلهإلى تركيا أو لبنان عن طريق حواجز النظام، ويصل سعر الكيلو إلى 60 ليرة تركية في تركيا وإلى نحو 25 دولاراً في لبنان.

تشمل هذه التجارة أيضاً الحديد”الطوناج” الذي يتم استخراجه من الأبنية المدمرة أوالسيارات والآلات بعد قصها بـ”الشليمون” وذلك حسب شهادة عدة أشخاص كانوا يعملون في نقل هذه المواد بين حلب وتركيا وحلب ولبنان.

يقول أحدهم للغربال: “معظم النحاس الذي بعته كان من معمل الكابلات الذي سيطرت عليه جبهة النصرة نهاية عام 2012 وأرادت بيع الكابلات التالفة منه،إلا أن جبهة النصرة لم تكن تفرز التالف عن الصالح بل كانت تترك ذلك للعمال وأصحاب السيارات”كنا نختار الكابلات الجيدة والنظيفة ونضربها بالسكين ونقول أنها تالفة لنشتريها بسعر رخيص لا يتجاوز 350 ليرة سورية للكيلو الواحد” تم اعتقال هذا السائقفيما بعد من الهيئة الشرعية بحلب والتي كانت تترأسها جبهة النصرة حينهابتهمة السرقة وصودرت كمية كبيرة من النحاس الذي اشتراه من معمل الكابلات وغيره.

لا تخضع هذه التجارة لأي رقابة من أي جهة والعاملون بها يعملون بدون ترخيص من أي جهة, إلا أن المكتب المدني في المحكمة الشرعية يشترط على صاحب المحل أن يمتلك ختماً خاصاً به لتتم مراجعته في حال تم ضبط أي مسروقات حسب ما يقول “أبوالعز” رئيس الادارة المدنية في المحكمة الشرعية للغربال: “لسنا جهازاً مستقلاً بل نتبع للمؤسسة الأمنية وليس لدينا أي عناصر لنسيرهم لمراقبة هذه المحلات ومعرفة مصادر هذه البضاعة،ويقتصر دور هذا المكتب على إعطاء أذونات النقل بين مناطق حلب والريف مقابل مبالغ مادية صغيرة، حيث نتأكد من مطابقة البضاعة المراد نقلها للأوراقوالفواتير التي يحوزها صاحب البضاعة إلا أن ذلك لا يمنع من نقل المسروقات إذ يمكن اخفاء الكثير من الأشياء بين الأغراض التي توضع في سيارات النقل”.

ورغم انتشار تجارة البضائع المستعملة المسروقة بشكل واسع بحلب وإطلاع معظم السكان على أوضاع السرقات وأسواق المسروقات في حلب فلم تتحرك أي جهة لضبط أوضاع هذه الأسواق في الوقت الذي تشن فيه المؤسسات العسكرية والأمنية في مناطق سيطرة الثوار في حلب حملات أمنية بشكل متكرر على عصابات السرقة تاركة الحبل على الغارب لتجار البضائع المستعملة الذين يقومون في الواقع بتصريف مسروقات عصابات السرقة.

أدوات المطبخ والنحاسيات لم تعب عن أسواق المستعمل
أدوات المطبخ والنحاسيات لم تعب عن أسواق المستعمل

التعليقات متوقفه