مستقبل أسود ينتظر أطفال سوريا المتسربين من المدارس – محمد عثمان

يعاني عشرات الآلاف من الأطفال السوريين بعد تركهم مدارسهم بحكم اضطرارهم للنزوح مع عائلاتهم من التشرد والفقر حيث أجبرتهم ظروفهم القاسية على الشحادة أو العمل في ظروف صعبة وبأجور زهيدة ليدفع هؤلاء الأطفال الثمن الأكبر رغم أنهم الفئة الأضعف في المجتمع الذي لم يحرك فيه أحد ساكناً من أجلهم

تراهم منتشرين عند إشارات المرور أو أبواب الجوامع، بعضهم يلجأ للتسول بشكل مباشر والغالبية العظمى تمارس تسولاً مقنعاً ببيع السكاكر أو المناديل الورقية، أعمارهم صغيرة لا تتجاوز السبع أو ثماني سنوات، غالبيتهم أطفال نازحون الى الساحل السوري من إدلب وحلب وقليل منهم جاؤوا من الرقة ودير الزور، الأعمار الأكبر تتجه للأعمال الأكثر شقاء، منهم من ينخرط في ورشات البناء أو يعمل كأجير لدى الحرفيين في المنطقة الصناعية للتنظيف والمساعدة ببعض الأعمال الصغيرة في صيانة السيارات أو غيرها.

لا يجيد هؤلاء الأطفال بغالبيتهم القراءة والكتابة، فأحمد ذو التسع سنوات لا يستطيع أن يكتب اسمه الكامل، لم يملك وقتاً للذهاب الى المدرسة، لأن عمله في أحد المخابز الخاصة يستهلك معظم وقته، كما أن نزوحه منذ عام 2012 مع أسرته الى محافظة اللاذقية هرباً من معارك حلب، جعلته ينسى ما تعمله في المدرسة سابقاً بشكل شبه تام، لا ينوي أحمد العودة للمدرسة على الأقل في الوقت الحالي على اعتبار أنه معيل أسرته المكونة من سبعة أفراد، فوالده الذي فقد أحد أطرافه جراء إصابته بشظية لم يعد قادراً على العمل والإنتاج ليصبح أحمد باعتباره الابن البكر المعيل الوحيد الأسرة.

أحلام الأطفال المتسربين من المدارس مؤجلة

عند اقترابك من هؤلاء الأطفال لابد أن تعرف مقدار الشقاء الذي يعيشونه ليتأقلموا مع وضعهم الجديد الذي يقتل طفولتهم، تراهم يطلقون على أنفسهم تسميات تناسب المنطقة التي يتواجدون فيها أو المهنة التي يعملون بها كأجراء، يفعلون المستحيل لجعلك تشتري منهم أو تعطيهم نقوداً، “نريد العودة لبيوتنا”، هذه أولى العبارات التي يحدثونك بها بمجرد سؤالهم عن احلامهم المستقبلية، فالمدرسة بالنسبة لهم مجرد تحصيل حاصل، سيكون ضمن برنامج حياتهم اليومي بمجرد عودتهم لقراهم ومدنهم، أما الآن فهي مشروع مؤجل مع باقي تفصيلات حياتهم التي فقدوها أثناء رحلة النزوح، قناعة هؤلاء الأطفال بأن الوضع الذي يعيشونه مؤقت، يعطيهم أملاً بفرجٍ قادم مستقبلاً، بالرغم من عدم وجود أي آفاق تبشر بانفراج قريب.

تقول منى، وهي مدرّسة في إحدى المدارس الحكومية، للغربال: “هناك عدد من هؤلاء الأطفال الذين يتابعون صفوفهم الدراسية الى جانب عملهم، لكنهم يعتبرون قلة قليلة من غالبية تركت المدارس، فالغالبية العظمى من الأطفال النازحين، يلتزمون بالدوام المدرسي لمدة شهر أو شهرين، ثم يختفون فجأة، مع تكرار غيابهم حاولنا حصر مسببات هذه الظاهرة، فكان جواب الأهل أن اكتظاظ الصفوف بستين أو سبعين طالب تجعل المدرّس عاجزاً عن إيلاء الطفل الضعيف دراسياً الاهتمام الكافي، كما أن عدم انسجام الأطفال النازحين مع أطفال البيئة المضيفة والاختلاف الكبير فيما بينهم، دفع هؤلاء الأطفال النازحين إلى رفض الاندماج مع بيئتهم المدرسية الجديدة، فكان اللجوء إلى الشارع ملاذهم الوحيد”.

تضيف منى: “هناك جهتين رئيسيتين تتحملان مسؤولية تسرب الأطفال من المدارس بالدرجة الأولى، هما المدرسون وأولياء أمور الأطفال، دور كل منهما في تعزيز هذه الظاهرة بات واضحاً لأن الطفل ليس قادرا على اتخاذ قرار ترك المدرسة بمفرده لولا استهتار مدرّسه وإهمال ذويه”.

ملايين الأطفال تركوا التعليم بسبب سياسات النظام

صندوق الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف”، أصدر في الثاني من الشهر الجاري تقريراً شاملاً عن ظروف هؤلاء الأطفال، أكد فيه أن “الأطفال في سوريا يدفعون ثمناً باهظاً لفشل العالم في وضع حد للحرب الدائرة منذ أكثر من أربع سنوات”، وأشار التقرير إلى أن “نحو مليونين و700 ألف طفل سوري خارج المدرسة، مقابل زيادة عدد الأطفال الذين يجبرون على العمل”، ونوّه التقرير إلى أن “الأطفال يبدؤون العمل في سن مبكرة جداً، وغالبا قبل بلوغهم سن 12 سنة، بل أنه في بعض أجزاء لبنان، هناك أطفال سوريون نازحون يعملون بمهن شاقة ولا تتجاوز أعمارهم ست سنوات”.

ويذكر التقرير أن “معظم الأطفال السوريين كانوا يذهبون إلى المدرسة، وكانت معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة تفوق الـ90 في المئة في سوريا، لكن بعد أربع سنوات ونصف السنة من الحرب، صار أربعة من أصل كل خمسة سوريين يعيشون في الفقر، وبلغ عدد النازحين داخلياً 7.6 مليون نازح بحلول نهاية عام 2014”.

لا تستثنى محافظة اللاذقية من هذه الاحصاءات، حيث تشير أرقام رسمية أن عدد المتسربين من المدارس في الساحل السوري وصل الى ثمانين ألفاً على الأقل، غالبيتهم من الأطفال النازحين، الذين لم يبذل النظام جهداً يذكر لاستيعابهم في المدارس، بحجة أن المدارس لم تعد قادرة على تحمل هذا الكم الهائل من النازحين.

الفقر والجهل وظروف الحرب، لا تعتبر العامل الوحيد المتسبب بهذه الظاهرة، أصوات أهلية كثيرة تحمّل النظام اللوم، على اعتبار أن التذرع بضيق الصفوف يعتبر حجة واهية، تشجع هذه الفئات ليتركوا مدارسهم، فمن غير المعقول أن يكون النظام قادر على تمويل آلة الحرب حتى هذا الوقت، وفي نفس الوقت يدعي أنه غير قادر على استيعاب الأطفال النازحين في المدارس بعد أن أجبرتهم الآلة العسكرية للنظام على النزوح مع عائلاتهم.

تقول ميادة، وهي متطوعة في إحدى المنظمات الإنسانية للغربال: “مديرية التربية التابعة للنظام في اللاذقية قامت بافتتاح مدرسة مسائية ضمن مخيم النازحين المقام في المدينة الرياضية، لكنها سرعان ما توقفت عن نشاطها بحجة عدم توفر الميزانيات اللازمة لاستمرار العمل”، وتؤكد ميادة أن: “جميع المدرسين العاملين في المدرسة كانوا من المتطوعين، كما أن المدرسة كانت ممولة من قبل جهات كثيرة فاعلة اقتصادياً إلى جانب دعم المغتربين، لكن مديرية التربية أصدرت قراراً بإغلاقها بحجة عدم توفر التمويل اللازم”.

وتضيف ميادة : “توجد بعض المبادرات التي تنفذ بشكل فردي هنا وهناك، لكن أثرها محدود جداً ولا يحل المشكلة، كما أن عدم تجاوب الأطفال أنفسهم يعتبر عائقاً أمام نجاح هذه المبادرات، ، فالوضع الاقتصادي الصعب، والحالة الغير مستقرة إضافة الى غياب الأب أو الأم أو كليهما، تؤثر جميعاً بشكل كبير على سلوك الطفل ونفسيته التي تصبح صعبة المراس ورافضة لكل شيء”.

وتلعب العوامل النفسية دوراً في زيادة وضع الأطفال سوءاً، حيث يشير عدد من الاخصائيين النفسيين ممن التقتهم الغربال إلى أن “ظروف الحرب تترك رواسب نفسية لدى الأطفال لا يمكن تجاوزها بسهولة، مما ينعكس لديهم على شكل سلوكيات عدوانية، تؤثر على حياة الطفل الاجتماعية وطريقة تواصله مع المحيط”.

وتلفت ميرنا وهي مدربة أنشطة تفاعلية في حديث للغربال إلى أنها تعاملت مع عدد من الأطفال النازحين الذين يعانون من الانطوائية وصعوبات في النطق نتجت عن تعرضهم لصدمات نفسية أو مشاهد عنف عاشوها نتيجة الحرب الدائرة في مناطقهم، والتي تسببت في جعل الطفل عدوانياً أو انطوائياً يخجل أو يتحرج من الاختلاط بأقرانه على أقل تقدير.

تقصير المنظمات الدولية لعب دوراً

لم تبذل المنظمات الدولية من الأمم المتحدة والمنظمات الأوربية الحكومية والخاصة جهوداً حقيقة لتخفيف أثر تسرب الأطفال من المدارس وبالتالي تشردهم، بالرغم من المناشدات الكثيرة التي وجهتها المنظمات الأهلية السورية إليها لتقديم المساعدة.

حيث اقتصرت مساعدة المنظمات الدولية على توزيع المواد الغذائية والصحية، دون وجود جهود جادة من قبلها لحل المشكلات الاجتماعية التي تفاقمت مؤخراً كتسرب الأطفال من المدارس وبالتالي تشردهم. ويؤكد حسين، وهو متطوع في جمعية أهلية في اللاذقية تتلقى دعماً من مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، للغربال أن: “الجمعيات والمنظمات الأهلية عرضت على المفوضية الكثير من المقترحات لدعم المشاريع الصغيرة التي تسهم في تأمين فرص عمل للأسر التي أنهكها أنتشار البطالة ووضعها أمام خيارات صعبة منها تشغيل الأطفال بعد إخراجهم من المدارس، لكن رفض المفوضية تقديم أي تمويل منع تنفيذ مقترحات دعم المشاريع الصغيرة، حتى أن المفوضية أبلغت الجمعيات الأهلية أنها لم تعد قادرة أصلاً على تمويل السلل الغذائية الخاصة بالأسر المحتاجة، والتي سيتم تخفيض مخصصاتها من هذه السلل، ما سيزيد الصعوبات والتحديات أمام العائلة والطفل”.

آثار سلبية ومستقبل مجهول ينتظر الاطفال المتسربين

لا يعي هؤلاء الاطفال مقدار الخطر الذي ينتظرهم إن كان في حاضرهم أو مستقبلهم، كثير من الباحثين الاجتماعيين نبهوا لخطورة الوضع الذي تمر به هذه الشريحة العمرية، التي تعيش معظم وقتها في الشوارع، فالأطفال في الشارع يمارسون أشغالاً لا تؤمن قوت يومهم، ويتعرضون لاعتداءات مختلفة ما زال الحديث عنها امراً محظوراً على المستوى الاجتماعي كتعرضهم للتحرش الجنسي أو تعرضهم للضرب والتعذيب والاهانات اللفظية، كثير من هؤلاء الأطفال المتسربين من المدارس باتوا يعملون كأجراء لدى أشخاص ليسوا مؤهلين تعليمياً الأمر الذي يؤثر سلباً على طريقة تفكيرهم، مما يدفعهم لانتهاج سلوك منحرف، يبقى ملازماً لهم طوال حياتهم.

عند سؤال الغربال لمسؤولي مركز “رعاية الأحداث” الواقع في منطقة الشير في اللاذقية عن أعداد الاحداث الموجودين فيه منذ بداية النزوح نحو محافظة اللاذقية، أكد  القائمون على المركز أن: “العدد ما زال مقبولاً حتى الآن ولا يسبب الرعب، لكنه ليس مؤشراً حقيقياً عما يحصل على الأرض لأن عدد الأطفال الواصلين إلى المركز لا يشكل شيئاً أمام أعداد الأطفال المشردين الكبيرة”.

تؤكد السيدة مرام، وهي موجهة تربوية، للغربال أن: “الهوة التعليمية أصبحت واسعة جداً بين الأطفال المشردين وأقرانهم، ما سيؤثر سلباً على ثقة الأطفال المشردين بأنفسهم مستقبلاً، ويدفعهم لانتهاج سلوك عنيف، خاصة أن عدد كبير منهم يعبر في لحظات معينة عن شوقه للعودة لمدرسته، سارداً ذكرياته الجميلة فيها”.

فعاليات أهلية كثيرة جربت التواصل مع هؤلاء الأطفال، في محاولة لجذبهم للانخراط في الصفوف الصغيرة التي تؤسس لأجل تعليمهم، وتحدثت زينة، وهي متطوعة في إحدى هذه الجمعيات، عن صعوبة التعاطي مع هؤلاء الأطفال، وحاجتهم الكبيرة لبرنامج دعم نفسي متكامل يجعلهم يتقبلون العملية التعليمية مجدداً، تقول زينة: “لا يمكننا القول أننا نسهم بحل المشكلة، بقدر أثر الفراشة الذي نحققه، هو قدر بسيط بكل حال لكنه لا يزول، وصلنا كثيرا لمراحل من اليأس كمتطوعين، عانينا من عدم تجاوب الأطفال، ورفض ذويهم انضمامهم للصفوف، أو تأخر استيعابهم وصعوبة ضبطهم، بسبب انقطاعهم لمدة طويلة عن جو المدرسة الاجتماعي الذي أثر على سلوكهم الحالي، لكنهم مسؤولية اجتماعية يجب ان نتحملها كشباب”.

لا يبدو أن هناك حل في الأفق وسط هذا الدمار والخراب الذي يعيش فيه هؤلاء الأطفال، الذين يشكلون الحلقة الأضعف في هذه الحرب، وستزيد معاناتهم بلا شك مع تواصل النزوح وازدياد الفقر والبطالة وبالتالي تسرب المزيد منهم من المدارس ودخولهم عالم العمل أو التشرد.

التعليقات متوقفه