الهجرات الكردية إلى سوريا: الاضطهاد والتهميش سبب ونتيجة
الأكراد هم سكان المناطق الجبلية في زاغروس شمال غرب إيران وجنوب شرق الأناضول، وهم من الأقوام الهندو-آرية وليسوا ساميين، وهذا ثابت عند أكثر الباحثين والمؤرخين الاوروبين. وقد عاش الأكراد بصورة مستقلة، منقسمين إلى قبائل، ولم يكن الأكراد شعباً متحداً على مسرح التاريخ أسوة بشعوب آسيا الرحل مثل المغول.
وبحسب المؤرخ الروسي تيكيتين فإن سنجر -آخر ملوك السلجوقيين- هو من أطلق لفظة كردستان على أقاليم مملكته في القرن الثاني عشر بعد الميلاد. وقد ذكر التسمية المؤرخ القزويني في كتابه “نزهة القلوب” سنة 740 هجرية، حوالي القرن الرابع عشر للميلاد. وتبلغ مساحة كردستان بحسب المصادر الكردية حوالي 409650 كم مربع، يقع منها في سوريا حوالي 18300 كم مربع.
في 10 آب 1920 وافق الحلفاء في معاهدة سيفر على ضمان حقوق الأكراد والأرمن في إنشاء وطن مستقل لكل منهما، لكن سرعان ما تم تعديلها بمعاهدة لوزان عام 1923 التي أسقطت فيها الإشارة إلى أية مطالب كردية. بعد ازدياد قوة أتاتورك مؤسسة الجمهورية التركية وبسبب الخوف من أن تتبع الدولة الكردية المفترضة النفوذ السوفياتي.
كردستان سوريا أم مناطق كردية في سوريا؟
كثر مؤخراً استخدام مصطلح كردستان سوريا أو إقليم غربي كردستان أو كردستان الغربية، ويُقصد بها المناطق ذات الغالبية الكردية الواقعة ضمن الأراضي السورية، وتخبرنا الحقائق على الأرض أن هذه المناطق لاتشكل اتصالاً جغرافياً واحداً، إذ يتوزع أكراد أسوريا في مناطق ثلاث هي:
– منطقة عفرين أو كرد داغ “جبل الأكراد” وتقع شمال غرب حلب على حدود سهل أنطاكية ولواء اسكندرون، وتمتاز بكثافتها السكانية، حيث تضمّ قرابة 360 قرية، وتمتاز بتربتها الخصبة وزراعاتها المتعددة من أعناب وتين وزيتون.
– ومنطقة عين العرب – كوباني، وتقع شمال شرق حلب تماماً، وفيها حوالي 120 قرية.
– أما المنطقة الأساسية فهي منطقة الجزيرة، وأهم المدن التي يشكل الأكراد ثقلاً سكانياً فيها هي القامشلي وعامودا والدرباسية وديريك.
هذه المناطق الثلاث مفصولة عن بعضها البعض بمناطق ذات غالبية سكانية عربية، وهكذا فإن ما يسمى بـ”كردستان سوريا” هو في الواقع ثلاث مناطق منفصلة تعد امتداداً لمناطق ذات غالبية كردية في تركيا.
أكراد الداخل وأكراد الأطراف
يمثّل القرن الحادي عشر نقطة بدء الانتشار الكردي الحقيقي الكثيف في المدن الداخلية والمناطق الساحلية الشامية، ويعدّ الأكراد الأيوبيون أهم عناصر هذا الانتشار وينتسبون برمتهم في أصولهم وفروعهم إلى نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان الكردي القادمون من كردستان العراق والمستقرون أولاً في بعلبك ثم في دمشق ليكونوا في خدمة الأتابكة الزنكيين وخاصة عماد الدين الزنكي وابنه نور الدين الشهيد، حيث استقرّ الفرسان الأيوبيون في مناطق الحصون الساحلية الشامية، ومن أشهرها حصن الأكراد الذي بني عام 1031 للميلاد، “قلعة الحصن الآن” في مواجهة الإمارات الصليبية على الطريق الرئيسية بين حماه والمرافئ الشامية في طرطوس وطرابلس.
وفي بداية الفترة العثمانية سكنت عشائر كردية صغيرة منطقة عفرين وكانت تجبي الضرائب لمصلحة الخزانة العثمانية، ونشأ عن هذا الوجود حي الأكراد في دمشق الذي شكّل الحاضرة المدينية للوجود الكردي في سوريا إجمالاً، في حين ظلّ جبل الأكراد “كرد داغ” في عفرين شمال حلب؛ خاضعاً لسلطة الأغوات الأكراد ومرتبطاً بسلطات كلس وحلب معاً، هؤلاء هم من يطلق عليهم اسم: أكراد الداخل.
أمّا أكراد الأطراف فهم الذين تركّز معظمهم في منطقة الجزيرة السورية نتيجة الهجرات القسرية من تركيا والتي بدأت مع القمع الكمالي لثورة النورسي في عام 1925 وانتهت بإخماد ثورة سيد رضا في عام 1938.
الهجرات الكردية إلى الجزيرة السورية
تعود بداية هذه الهجرات إلى عام 1925 حين قامت السلطات التركية على خلفية إخماد ثورة النورسي بعملية نقل قسري للسكان الأكراد إلى برّ الأناضول، طالت العملية وقتها أكثر من مليون كردي، ودمّرت مدنهم وقراهم عن بكرة أبيها، وقسّمت كردستان إلى مقاطعات ذات إدارة عسكرية، مع بناء قلاع عسكرية في أعالي الجبال لمراقبة تحركات الأكراد والسيطرة عليهم، واستمرت هذه السياسة حتى عام 1939. وبين عامي 1925 و 1938 قام الأكراد بسبع عشرة ثورة عشائرية ضدّ الدولة التركية، ومع كل ثورة كردية كان ينتج تدفّق هجرة كردية جديدة إلى الجزيرة السورية.
بقي هؤلاء المهاجرون يحملون هويتهم التركية حتى تموز من عام 1938 الذي وقّع فيه بروتوكول الجنسية بين فرنسا وتركيا، وتمّ بموجب هذا البرتوكول التمهيد لدخول القوات التركية إلى لواء اسكندرون، وإلغاء حقّ التنقل بين تركيا وسوريا باسم الرعي، الأمر الذي ضرب التكاملات والتواصلات العشائرية البشرية والجغرافية بين العشائر المقيمة بين جنوب خط الحدود وشماله في الجزيرة السورية، وكانت معظمها من العشائر الكردية. كما تمّ إقرار بروتوكول الجنسية الذي اعتبر كل من يحمل الجنسية التركية على الأراضي السورية فاقداً لها إن لم يراجع الدوائر القنصلية التركية المعنية قبل 15 آب من العام نفسه، وإن لم ينقل سكناه إلى الأراضي التركية.
وبسبب الاضطهاد التركي للأكراد فضّل عشرات الآلاف من المهاجرين خسارة ممتلكاتهم في تركيا على العودة غير الآمنة إليها. وكان أثر هذا البرتوكول في منطقة الجزيرة أكبر منه في باقي المحافظات السورية بسبب انحدار معظم سكان الجزيرة من تركيا. إذ أصبح هؤلاء بعد نهاية مهلة الشهر أجانب بالنسبة إلى تركيا، التي لم تتأخر حكومتها برئاسة عصمت إينونو عن إصدار قانون آخر عام 1939 تمّ بموجبه تحويل الأملاك الثابتة للعشائر الكردية وزعمائها إلى ملكية الدولة التركية!
فرنسا بدورها توسّعت في منح قسم كبير من هؤلاء المهاجرين الجنسية السورية، الأمر الذي أثار حفيظة عدد من الوطنيين ومنهم نائب دمشق علي بوظو المتحدّر من أصول كردية حيث وصف المهاجرين بمتسللين، وبأنهم من غير المرغوب فيهم في تركيا، كما قدّر النائب البعثي عبد الكريم زهور عدي أن المهاجرين تملّكوا أكثر من نصف مليون دونم في الجزيرة وأن منطقة الجزيرة تعاني وضعاً خطيراً بسبب ذلك، ويقدّر البعض عدد هؤلاء بحوالي 75 ألف نسمة.
أعادت الحكومة الوطنية بعد الاستقلال وعودة الحياة الدستورية في الربع الأخير من عام 1943 النظر جذرياً في السياسات التوسعية الفرنسية السابقة في استيعاب المهاجرين وتسجيلهم.
إلا أن هذه الهجرات لم تتوقف فعلياً، إذ رصدت حركة هجرة أخرى في عامي 1942 و 1943 كان قوامها فئة كبيرة من الشباب الأكراد الفارين من تركيا إلى الجزيرة بسبب الخدمة الإلزامية الشاقة في الجيش التركي، والتمييز الممارس ضدهم بوصفهم “كفاراً”!
واتبعت الحكومة السورية لاحقاً سياسة انكماشية تقييدية في تسجيل الأجانب في الجزيرة بهدف الحد من تسرب المتسللين وذلك من خلال توقيف أي شخص لايحمل هوية شخصية، الأمر الذي أفرز ظاهرة شراء الهوية عن طريق الفساد والرشاوى، حيث يذكر البعض أن استصدار هوية بالطرق غير الشرعية كان يكلّف 200 ليرة سورية بمقاييس تلك الأيام!
ولم تتوقف هذه الهجرات تماماً حتى 1959، حيث تحوّلت من هجرات قسرية خوفاً من البطش التركي إلى هجرات عمل آملاً بالحصول على قطعة أرض! حيث شرعت الحكومة في عام 1959 بتوزيع الأراضي على الفلاحين الفقراء دون اتباع سياسة تمييز قومي أو لغوي في عملية التوزيع، حيث أعطيت الأولوية للفلاحين الذين يعملون في الأرض، وكان في عدادهم الكثير من الفلاحين الأكراد ممن لايحملون جنسية سورية، أو غير المقيدين في السجل المدني.
ولم يتنهِ تماماً العامل التركي الطارد وبخاصة عقب تظاهرات أيار 1961 الاحتجاجية الكردية التي قُتِل فيها حوالي 315 كردياً، مما دفع قسماً كبيراً من الأكراد إلى الهجرة إلى الجزيرة السورية لتجنب الحكم عليهم في بلادهم.
الإحصاء الاستثنائي لعام 1962:
في 5 تشرين الأول 1962 أجرت حكومة خالد العظم إحصاءاً استثنائياً لمحافظة الجزيرة “الحسكة” حيث قضى قرار وزارة الداخلية بإنهاء كافة سجلات الأحوال المدنية السابقة المتعلّقة بسكان المحافظة وإجراء إحصاء عام جديد، يعتبر فيه السوري هو من كان مسجّلاً في قيود الأحوال المدنية قبل عام 1945، وارتبط تحديد عام 1945 كسنة أساس في حساب مواطنية السكان بتقدير الحكومة السورية عن أن تدفّق الهجرة الجديدة التي حاز أفرادها هويات شخصية بطرق متعددة قد بدأت في عام 1945، حيث استقرت هذه الهجرة على طول الحدود من رأس العين إلى المالكية.
تم الإحصاء بإشراف لجنة محلية عليا ترأسها سعيد السيّد، وهو متعصب كبير للقومية العربية، وتألّف جهاز الإحصاء من 200 معلم كان أغلبهم من مدينة حلب.
تمخّضت عملية الإحصاء عن تسجيل 85 ألف مقيم في محافظة الحسكة بصفة “أجانب أتراك” وهو ما يعادل 27.5 من عدد سكان المحافظة البالغ يومئذ 309279 نسمة. ونحو 53 في المئة من إجمالي عدد السكان الأكراد في الجزيرة وفق التقديرات لعام 1963 والمقدر ب 160 ألفاً، وبذلك تمّ تحويل الأكراد من أكثرية سكانية في الجزيرة إلى أقليّة كبيرة في يوم واحد!
كان من بين المجرّدين من الجنسية عدد من كبار السياسيين والعسكريين السوريين مثل عبد الباقي نظام الدين النائب والوزير في حكومات متعددة، وشقيقه اللواء توفيق نظام الدين رئيس هيئة الأركان السورية بين 1955 و 1957، الأمر الذي أفقد عملية الإحصاء المصداقية وزاد من الشبهات في مدى سلامتها وصبغها بطابع قومي عربي.
وقد وضع من أسقطت عنهم الجنسية والمكتومون ضمن خانة “أجانب تركيا” في السجل المدني السوري، بينما أسقطت تركيا -الدولة التي تحدّروا منها- جنسيتها عنهم.
وحين احتجت الحكومة التركية على هذا الوصف تم تغيير الخانة إلى اسم “أجانب المحافظة”. وقد قاسى هؤلاء الأمرّين، حيث كانوا خاضعين للخدمة العسكرية، ولكن لم يُمنحوا بطاقات هوية ولم يكن يسمح لهم بالتملّك أو التسجيل في المدارس أو الزواج بشكل قانوني في المحاكم، واستمر وضعهم على هذه الحال حتى 2011.
خطة هلال ومشروع “الحزام العربي”
تقدّم الملازم الأوّل محمد طلب هلال رئيس الشعبة السياسية بالحسكة في عام 1963 بدراسة عن المحافظة تضمّنت خطة باسم: “دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية، الاجتماعية، السياسية” وتمّت هذه الدراسة بمساعدة سعيد السيد محافظ الحسكة ومهندس “الإحصاء الاستثنائي” وعمليات التعريب القسرية في الجزيرة، تقوم خطة هلال على أن تبدأ الدولة بعمليات تهجير للأكراد نحو الداخل على مدى ثلاث سنوات، وإحلال عناصر عربية بدلاً عنهم، كما نصح الدولة بممارسة سياسة تجهيل عمادها عدم إنشاء أية مدارس أو معاهد في مناطق الأكراد وتركهم يعيشون في جهل مطبق، وأوصى أيضاً بسد أبواب العمل وتضييق فرص العيش أمام الأكراد الأمر الذي سيدفعهم إلى الهجرة نحو الداخل أو مغادرة البلاد، كما أوصى بعدم توزيع أراضي الإصلاح الزراعي عليهم، وضرورة ضرب الأكراد ببعضهم البعض عن طريق إثارة الفتن بينهم. وقد قدّمت هذه الدراسة إلى المؤتمر القطري الأوّل لحزب البعث في سوريا، الذي رفض النظر في هذه الورقة انطلاقاً من مبادئه المنادية بدعم الفلاحين وأهدافه المعلنة المنادية بالاشتراكية، وعلى الرغم من عدم اكتساب برنامج هلال أية صفة رسمية إلاّ أن أفكاره بقيت مؤثرة في سياسات تنمية الجزيرة، كإهمال المناطق الكردية تعليمياً وعمرانياً وإنمائياً ومراقبة الأكراد الدائمة وإثارة المشكلات والفتن بينهم.
أمّا قضية تهجير الأكراد أو إحلال عناصر عربية بينهم لإحداث تغيرات ديموغرافية في المناطق ذات الغالبية الكردية فيمكن القول إن مشروع “الحزام العربي” كان أبرز هذه المحاولات وآخرها.
ظهر هذا المشروع للوجود نتيجة ظهور مشكلة القرى المغمورة بسبب بناء سد الفرات ونشوء “بحيرة الأسد”، وقد امتدّ نطاق “الحزام العربي” من القامشلي حتى جنوبي المالكية شرقاً، في أراضٍ كان يقطنها حوالي 25 ألف كردي مسجلين كأجانب، وغير صحيح مايذهب إليه البعض من أن هذا المشروع تضمّن تهجيراً للأكراد من أراضيهم -بحسب محمد جمال باروت في كتابه التكوين التاريخي الحديث للجزيرة السورية- حيث يؤكّد باروت أن العملية كانت بهدف الاستفادة من العرب الذين تعرّضت أراضيهم للغمر بإحداث توازن بين الأكراد والعرب دون القيام بأي تهجير للأكراد في تلك المنطقة، حيث تمّ تشييد حوالي 42 قرية لاستيعاب 4000 أسرة يعادل عدد أفرادها نحو 25 ألف نسمة. أي أنهم شكلوا مايعادل تقريباً عدد “أجانب تركيا” في تلك المنطقة.
الأكراد في دولة البعث
أوقف حافظ الأسد السياسات العرقية المستخدمة ضد الأكراد، ولكنه لم يصحح وضع الذين سحبت منهم الجنسية، ناهيك عن قيام الدولة بشكل عام بانتهاج سياسة تعريب كبير بحق الأسماء الشخصية وأسماء القرى القرى والمدن غير العربية.
واستمر الوضع كذلك في عهد ابنه بشار الأسد، حتى سنة 2011 حيث شُكّلت عقب انطلاق ثورة آذار لجنة مكلفة بدراسة إحصاء 1962، إلا أن بشار الأسد استبق توصيات اللجنة بإصدار المرسوم الرئاسي رقم 49 لعام 2011 والقاضي بمنح الجنسية السورية للمسجلين كأجانب في سجلات محافظة الحسكة، حيث تتوقع بعض المصادر أن من منحوا الجنسية يتجاوز عددهم ال 100 ألف كردي.
*تم اعداد هذه المادة من قبل فريق تحرير مجلة الغربال بالاعتماد على عدة مصادر تاريخية وسياسية أهمها كتاب “التكوين الحديث للجزيرة السورية” للاستاذ جمال باروت.
التعليقات متوقفه