واحة تدمر التاريخية.. الموت بين المنشار والمدافع – شيخموس علي، سالم علي (جمعية حماية الاثار السورية)
تتميز واحة تدمر التاريخية بأنها واحة غنّاء في وسط صحراء قاحلة ومترامية الأطراف، وهذا هو ما يمنح المدينة قيمة جمالية تُضاف إلى أهميتها الاستثنائية ومكانتها على خارطة التراث الثقافي والطبيعي العالمي.
ففي قلب البادية السورية وعلى مسافة 245كم إلى الشمال الشرقي من دمشق، تنبعث للعيان واحة نادرة المثال، واحة قديمةٌ قِدّمَ الماء فيها، فهي تقوم عند نبع (أفقا) ذي المياه المعدنية الحارة، الذي شكّل وجوده سبباً لنشوء تجمّع بشري وتطوره عبر آلاف السنين، فكما أن مصر هبة النيل ودمشق هبة بردى كذلك كانت تدمر هبة أفقا، ويمكن أن تُقارنَ بغوطة دمشق من حيث القِدم والاستمرارية كما يمكن مقارنتهما من حيث المصير والمآل الذي تتعرضان له بنتيجة الحرب المستمرّة من قبل النظام الحاكم.
لقد تعرّضت واحة تدمر خلال السنوات القليلة الماضية من عمر الثورة السورية ولا تزال تعاني من أعمال تخريب منهجي تقوم به آلة النظام العسكرية التي عاثت في أوصالها تدميراً وفي شرايين بقائها تقطيعاً، لا تُفرّق بين أخضرٍ ولا يابس فهي ما صُنعت إلا للموت.
مع انطلاق الحراك السلمي المطالب بالحرية في عموم الأراضي السورية، خرج أهالي المدينة في مظاهراتٍ حاشدة طالبت بالحرية والكرامة والخلاص من حكم العائلة وفسادها، وكما في بقية المدن والحواضر الأخرى ونتيجةً لتغوّل الأجهزة الأمنية فقد ترافقت الاحتجاجات السلمية بمظاهر مسلحة كانت تهدف إلى تأمين الحماية للمتظاهرين العُزّل، لكن الإصرار على الحل العسكري من قبل النظام أدى قيام كتائب مسلحة من المعارضة لم تجد لها من مستقرٍ يوفّر الأمان سوى بساتين الواحة التي أصبحت الشغل الشاغل للآلة العسكرية للنظام، فمع مطلع عام 2013 بدأت وحدات النظام العسكرية بإقامة تحصيناتها حول مقارّها المتوزعة على محيط الواحة التاريخية اعتباراً من المطار العسكري شرقاً إلى فرع الأمن العسكري وبرج الإشارة غرباً إلى منطقة القصور الرئاسية جنوباً فبقية المقارِّ العسكرية شمالاً، فشرعت في إنشاء الطرق وشقها عبر بساتين الواحة لتسهّل وتؤمن سرعة وصول الوحدات العسكرية وانتشارها كما لتؤمن مناطق عزل بين الواحة والمحيط العمراني القريب، وهو مخطط بعيد المدى يهدف إلى تقسيم بساتين الواحة إلى ما يشبه رقعة الشطرنج التي تتوزع كجزرٍ خضراء متباعدة تفصل بينها طرقٌ مستحدثة. وكانت البداية بشقّ طريقٍ واسعة تمتد من حاجز فندق الهيليوبولس إلى حاجز فندق وائل على الطرف الشمالي للواحة مكتسحةً الكثير من الأشجار المعمّرة والمثمرة.
ومنذ بداية عام 2014، قامت الوحدات العسكرية والأمنية بإطباق الحصار على الواحة، حيث أقيمت السواتر الضخمة لإغلاق كافة المنافذ المؤدية إليها وإحكام السيطرة الأمنية عليها، وإقامة مرابض ضخمة للدبابات والمدفعية بالقرب من المدافن الشرقية الكائنة في عمق الواحة وكذلك عند بير الزراعة بالقرب من استراحة بوابة تدمر، إضافة إلى السواتر الهائلة حول المطار المحاذي لبساتين الواحة من جهة الشمال الشرقي. وتَبِعَ ذلك شق طرق واسعة تربط مدخل فرع الأمن العسكري مع قمة السفح الشرقي لجبل الإشارة والقلعة وجبل الحصينيات ووادي القبور مخترقةً المدافن الشمالية بشكلٍ مدمّر وغير قابل للتعويض، مع إقامة سواتر الحماية والتجريف في عدة مواضع، في سبيل تأمين وحماية مقرات راجمات الصواريخ والمدافع والدبابات، والتي لم تهدأ، بعد تمركزها، عن صلي بساتين الواحة التاريخية والموقع الأثري وأطراف المدينة بحممها وقذائفها على مدار الساعة ولمدةٍ تزيد على عامٍ كامل، ما أدى إلى احتراق آلاف أشجار النخيل والزيتون والرمان المثمرة في بساتين الواحة.
ولم تكتفِ الآلة العسكرية للنظام بذلك، فمنذ شهر أيلول لعام 2014، باشرت بتجريف الكثير من البساتين والمباشرة بالمرحلة الثانية من مخطط تمزيق الواحة التاريخية وتدميرها، فمن أجل حماية ميليشيات الدفاع الوطني والشبيحة التي اتخذت من فندق تدمر (الديديمان -الشام سابقاً) مقر إقامة ومنطلق عمليات، فقد قامت بتجريف وإزالة آلاف الأشجار من البساتين المحيطة بالفندق من جهاته الجنوبية والشرقية والشمالية، وترافق ذلك بتدمير شبكة الأقنية التي كانت تقوم بنقل وتوزيع المياه لسقاية كافة بساتين الواحة، وتُعتبر هذه المنطقة (منطقة الشريعة المحاذية للفندق) حجر الزاوية في نظام نقل وتوزيع المياه لعموم البساتين.
وقد باشرت قوات النظام في شق طريق محاذية من الجنوب للفندق المذكور وتتجه باستقامة نحو الشرق، لتلاقي طريق الحوارة التي تستعد لشقه اعتباراً من الزاوية الجنوبية الغربية لمعبد بل متجهة بشكل مباشر جنوباً نحو أطراف الواحة مقسمة إياها إلى قسمين رئيسيين شرقي وغربي، ويتبعه شق طريق تبدأ من منطقة البعلة محاذية للسور الأثري وصولاً إلى منطقة وادي عيد، وطريق أخرى تبدأ من حاجز فندق وائل وتتجه مباشرة نحو الجنوب لتلتقي مع الطريق السابقة عند الوادي نفسه، إضافة إلى العديد من الطرق الفرعية الأخرى التي سيتم شقها استكمالاً لمخطط التقسيم الشطرنجي للواحة، والذي يهدف إلى إحكام الحصار والعزل على أي جزيرة منها وتسهيل استهدافها وتأمين سرعة ومرونة وصول الآليات العسكرية إلى أية نقطة فيها بدون عوائق وذلك عند الرغبة في اقتحامها، وتأمين زوايا كافية ومناسبة للمراقبة الدائمة خوفاً من أي تسلل محتمل من قبل الثوار.
إن الصفة المميزة لواحة تدمر التاريخية هي كونها واحة غنية في وسط صحراء تحيط بها من كل جانب، أي أنها ذات نظام بيئي ذي حساسية عالية، ولذلك فإن شقّ الطرقات وتوسيعها وإزالة الكثير من الأشجار إضافة إلى ما احترق منها نتيجة للأعمال الحربية وما رافقها من تدمير لنظام السقاية التقليدي بالأقنية وطمر الآبار، إضافةً إلى ما تشهده بساتينها من أعمال احتطاب عشوائي وغير مسؤول وبوتائر عالية تعتمد على تحكم النظام بتوفير عوامل التدفئة من المحروقات والكهرباء؛ كلُّ ذلك سوف يؤدي إلى التدمير الحتمي لهذا النظام البيئي الحيوي والإخلال بالتوازن الفيزيائي الهش لواحة تاريخية تعتبر الواحة الثانية من حيث المساحة بعد غوطة دمشق التي تتعرض لمصير مشابه.
إن التعدي المقصود بتغيير الطبيعة الفيزيائية والبيئية الهشة من خلال التخريب المتعمد بالحرق والإزالة والتجريف باستخدام الآليات الثقيلة، سيؤدي، على المدى الآني والمستقبلي، إلى أضرار غير قابلة للتعويض في الموقع الأثري والواحة التاريخية، التي لطالما كانت مفعمةً بالنشاط وضاجةً بالحياة كملتقى اجتماعي واسع لأهالي المدينة، الذين كان اعتمادهم الأساسي على منتجات بساتينها، علماً أن إحصائيات ما قبل الحرب الحالية كانت تُشير إلى أن ما نسبته 53% من السكان كانوا يعيشون تحت خط الفقر ويكسبون أقل من دولار واحد في اليوم، فإذا أخذنا بالاعتبار ما تمّ تجريفه وإزالته من البساتين وما قضت عليه حمم المدافع من الأشجار إضافة إلى ما سمح النظام بقطعه منها من خلال تحكمه التام بوصول وتوزيع وسائل التدفئة والإنارة على سكان المدينة الذين ضاقت أمامهم الخيارات فلم يجدوا إلا التحوّل إلى بساتينهم يقطعون من أشجارها ما يعينهم على العيش والدفء.
صور توضيحية أخرى:
التعليقات متوقفه