قصيدة: القبر الحرام – عبد الرحمن الإبراهيم
القبر الحرام
عبد الرحمن الإبراهيم
البطل الشهيد يحيى الياسين من خالدية حمص، قضى بقذيفة ودثرته الثانية بحجارة الجدار وهو على خمسين متراً من حاجز “الحبوش – معرة النعمان”، تمكنّ الأبطال وبعد يوم كامل من انتشال جسده الطاهر، ليدفن في مقبرة شهداء الغدفة، لمحته مرةً واحدة، وهو في زيارة ولدي المصاب في مستشفى السلام بالمعرة، يتيم الأب والأم، أخوته السبعة يحملون البنادق في حمص وغوطة دمشق، لم يرَ واحداً منهم منذ عامين.
وصلتُ متأخراً فصليت عليه وحيداً، ولم يكن بوسعي أمام هذا الجبين المخضب بالغربة والدّم والتراب إلا أن أبكيه نيابةً عن أمه وأبيه وحبيبته وأخته وأخيه وأن أهديه هذا النزيف المتواضع من مهجتي ومن جفون الكلام.
الغدفة في 3/12/2013
دَنُوْتُ من الشهيد أَجُرُّ جُرْحَا
ينوءُ بمِلحه ويريدُ مِلحَا!
وجُرحي كم تخثَّرَ أمنياتٍ
لتصبح قمّةً فتصير سفحا!
وما بنجيعنا طفحتْ كيولٌ
وكيلي جمرةٌ بالنار طفحى
و”يحيى” وهو يُقْرينَا سحاباً
ويَضربُ عن لقيط القَحْط صفحا
براحٍ ليس يغريها سخاءٌ
ولا اقترفتْ بوعظ الشُّحّ شُحَّا
تغوصُ الحاقداتُ من الشظايا
بنهر وريده فتعودُ سمحى
ويقتتلُ الترابُ على جراحٍ
يصيبُ بمائها الورديّ مدحا
فأضحى جُلُّ ما لَنا من ترابٍ
يفيضُ شقائقاً ويطيبُ فَوْحَا
على وجه الغريب دمٌ قريبٌ
يلوذُ بمدمعي ولَكَم ألحَّا
هطلتُ بخدّه فسقيتُ ورداً
وسُلْتُ بكفّه فنبَتُّ قمحا
وما آنستُ عند النعش أمّاً
ترتِّلُ آيةَ الفقدان فصحى
وتغسلُ بالحنان الصعب وجهاً
يصبُّ اللّهُ من عينيه صُبحا
ولا أختاً تزغردُ وهي تبكي
وتعزفُ بالأنين المرّ فَرْحَا
على الورد المهيب يحطُّ طيفٌ
يُرِيشُ من الحيا والدمع جَنْحَا
وكُرمى للهوى أسبلتُ قلبي
ودمعي عن هديلهما تنحّى
وما شاهدتُ من أدّى صلاةً
سوى جبريل حيث اللّه أوحى
تيمّمَ بالمخضّلِ من ترابٍ
يُقدّم عن هوى الشهداء شرحا
وصلّى بالقصيدة، أي إماماً
فأسجدَ رأسَ قافيتي وتَحّى
إذا سكتَ الشهيدُ فلا بليغٌ
يضيفُ لصمته البوّاح بوحا
وما بلغتْ وإن سمقتْ قوافي
غمائمَ نعلِ من بالرّوح ضحّى
ولن تزكو القصائدُ دون ملحٍ
فطوبى للتي اتخذتكَ مِلحا
فما عاصرتُ قبلك من عظيمٍ
يعمِّرُ من نجوم الله صرحا
يُسَيَّجُ بالصهيل ومورياتٍ
تُثيرُ لمجده في الغيم قَدحا
وما استأذنتُ قبلكَ من مُسجّى
أضيفُ لسِفْره الحبقيّ نفحا
خشيتُ من الحروف وقد تشظّتْ
تُضيفُ لجرحِك المفتوح جُرحَا
يَبيعُ دماكَ بـ”اليورو” شقيقٌ
ويُنْشِبُ لحيةً تُصْليكَ قَدْحَا
يُؤَمِّنُ للجهاد بها رماحاً!
وما أعطاك قبل الحتف رِمحَا
لأوجعُ من سيوف الفُرس غِمْدٌ
يخونُ بسيفه لِيُصِيْبَ رِبْحَا
ولنْ يُرْدِيه أنْ تَزدادَ حُسْنَاً
ولنْ يُنجيه أن يزدادَ قُبْحَا
سيعدلُ في الفرائس نابُ ذئبٍ
ويُشْبِعُ سائرَ الأعناق ذَبحَا
و”يحيى” كيف أحيا اللّهَ فينا
وأنجبَ من عقيم الفتح فتحا
ولم يغنم ولو قبراً بـ “حمصٍ”!
ولم يكسبْ كما الأطفال مرحى!
تَصَعَّدَ في السّما ليصيرَ غيماً
وأوغلَ في الثرى ليصيرَ دوحا
فطفتُ مُوَدِّعاً قبراً حراماً
وذنبي حبره ما ليس يُمحى
جثوتُ أبوسُه وبدون همسٍ
فصوتي باحتدام الصمت بُحّا
التعليقات متوقفه