وطنٌ مرقّعٌ بالبيانات – خير الدين عبيد
وطنٌ مرقّعٌ بالبيانات
خير الدين عبيد
من الآخِرْ، انسوني.. وليفصّل كلّ واحد منكم وطناً على كيفه.
ليحضر كلّ مواطن “مازورته” وليقس طوله وعرضه، خصره وأردافه، سعة صدره، طول أنفه ولسانه، قطر عقله، ثمّ ليرسم ويتخيّل ويصمّم، وبعد دهشة أرخميدس وقفزته ليقص ويخيط، ليفتق ويرقّع، فأنا “وطنكم البالي كخرقة” ملزم بتأمين المواد الأوّليّة كما وعدتكم، حتّى من أراد أن يشتري وطناً جاهزاً من أفخم الماركات فلا يتردّد، ليشتري وليرسل لي الفاتورة.
أعرف أنّني صرت “دقّة قديمة” لم تعد تعجب أحداً، لا قريب ولا بعيد، وأعرف أنّ الموضة حاجة ماسّة، فالزمن تغيّر، والرّؤى تغيّرت، فالأفكار والتمنّيات والشهوات يجب أن تلبّى، إذاً.. أين المشكلة؟ هاأنا ذا أصرّح بملء إرادتي أنّني رهن إشارتكم، استغلّوا لحظة احتضاري واطلبوا: من أراد مُلكاً فله الملك، ليضع تاجاً وليقف كالديك على كرسيّ الحكم ويصيح، من أراد انفصالاً سيحظى به ولو كان متراً مربّعاً أوشبراً أو أثراً لحافر، من أراد أن يعمل بالسياسة، سأفصّل له منتدى أو حزباً أو برلماناً على قدّه الميّاس، سأهدي لاحقي الجنس شاحنة من الأفخاذ البضّة المجللة بحلمات ورديّة، المفاتيح الأصليّة لخزائني هديّةً لأصحاب الفكر الاقتصادي، للمتشدّد حنّاء اللحى، للمعتدل ميزان حرارة، للعلماني هلال وصليب وميكرفون، للطائفي سيف، للأقلّية خرزة زرقاء، للشباب “جِلْ” ولابتوب، للمثقّف قارئ بليد، للحميماتي “طير بربريسي ترنّ الخلاخل في رجليه”، للصيّاد عصفور دوري، للسبّاح بحر بلا شاطئ، للعاشقة قبلتان وغمزة، للصوفي بطّانيّة، للبردان حقل نفط، للمشوّب شورتاً ومزيل عرق، للعازب أربع زوجات، للعانس فارس على حصان أشهب، للرياضي كرة أرضيّة، للمثلي مثلان أو ثلاثة، للمجرم عفو عامّ، للديكتاتور أطفال الأرض قاطبة لينهش لحمها ويفصّص عظمها.
لكن.. الذي أوّله شرط آخره نور.
لي عندكم -يافلذات كبدي وبؤبؤ عيني- طلب صغير، قد رأس الدبّوس، أريد منكم يانشامى أن تُسبلوا جفوني لحظة احتضاري كي لا أرى منكم أحداً، فمن أحبّني ذاب فيّ وقد فَعَلْ، غسّلوني بدموعكم المالحة، ومن خانه الدمع فليكسر فحل بصل ويفرك به وجهه، كفّنوني باللون الأزرق، بالصفعات واللكمات حتّى يصطبغ جلدي كلّه، ولا تأخذكم بي شفقة ولا رحمة، ثمّ احملوني -بعد أن ألفظ أنفاسي في وجوهكم- بلا تابوت، على رؤوس أصابعكم الوسطى المرفوعة فوق الرؤوس الكبيرة، واتجهوا إلى المقبرة بكل صخب ومرح ممكنين، غنّوا كلّ ماتحفظون من مواويل وعتابا، ردّدوا الأناشيد القوميّة والوطنيّة والطلائعيّة، اهتفوا بشعارات أحزابكم الطنّانة الرنّانة، اهزجوا وامرحوا وادبكوا وارقصوا الشيخاني والجيرك والفلامنكو ورقصة ستّي، متّعوا موتي ولو للحظات بعبثيّتكم ومجونكم المذهل، وادفنوني مكاني.. بعد أن تقرؤوا على روحي بياناتكم المقدّسة، بكلّ اللغات واللهجات والألسن.
واكتبوا.. ياأبنائي البررة، على شاهدة قبري، بالخطّ الصحفيّ تحديداً، على صدر صفحات مجلاّتكم وجرائدكم المطبوعة والإلكترونيّة المثيرة، اللافتة الفاضحة النقّادة: (مات غير مأسوف عليه.. وارتاح).
ولا تنسوا أن تزرعوا صبّارة على قبري، تناوبوا على سقايتها بكلّ ماتختزنه غددكم اللعابية من بصاق، لاتستغربوا وتندهشوا وتجحظ عيونكم، أنا أستأهل، لأنّني -ذات ثورة- خلّفت أمثالكم.
التعليقات متوقفه