دراما أرض البيدر – أحمد اليوسف – خاص الغربال
دراما أرض البيدر
أحمد اليوسف – خاص الغربال
لم يكن، في قريتي المنفيّة في جبل الزاوية، من مسرحٍ أو من معلمٍ ثقافيٍّ نمارس فيه طقوسنا الفنيّة. كان لنا من الفنون فقط حياتنا اليومية. فموسم الحصاد، على سبيل المثال، كان مهرجاناً وظاهرةً فنيةً نجسِّد فيها كلّ مواهبنا الريفية، من غناء العتابا، ورقصة الدبكة، وحلقات النميمة حول سفرة أكلٍ في لحظات استراحةٍ. وليس موسم الحصاد سوى مسرحيّةٍ فصليّةٍ معقّدة الحبكة في تفاصيلها. والتفاصيل في محنة تشبّثنا بالحياة قدرٌ وحتميّةٌ يحاول الإنسان الريفيّ، في صراعه الوجودي، أن يضفي، من خلال تعلقه بها، على وجوده معنىً.
هكذا، من تفاصيل حصادنا، أننا نسمّي باقة القمح شملاً، وكومة الشملات غمراً، ومجموعة الغمرات شكارةً. وكثير من قصص الحب وقعت حول غمرٍ، أو في استراحة أكلٍ بجوار شكارةٍ. كانت الشكارات كتلال قمحٍ شامخةٍ في أرض البيدر. وكنّا نحن الأطفال المحرومين من كلّ شيءٍ، عدا المخيّلة، نجعل من أرض البيدر مسرحاً دراميّاً نحاكي فيه أفعال الكبار، لطالما أنّ الدراما هي، كما يعرفها ابن الاغريق أرسطو، محاكاةٌ لفعلٍ انسانيٍّ. ولم نجد في فراغات انتمائنا افضل من الضَياع انتماءً، لطالما أنّ الوطن الذي نعيش فيه اسمه ضيعةٌ. فكنا نمثل بين شكاراتنا (كوم القمح) دور المخابرات والثائرين عليهم. وليس سهلاً أن تلعب دور المخابرات في دراما تفترض في شخصياتها التعقيد أو التناقض. فلم يكن عنصر المخابرات، في فهمنا الريفي، شخصاً معقّداً يحتوي في داخله شيئاً من التناقض، بل بالعكس كان، من وجهة نظرنا، شخصاً خلع عن نفسه تناقضه، حتى وكأنّه تحوّل الى مسخٍ بلا أيّ عمقٍ. فما من صراعٍ لديه، بين عقلٍ وضميرٍ، أو بين قيمةٍ وقيمةٍ أخرى، أو بين انتماءٍ وانتماءاتٍ مختلفةٍ، بل كلّ صراعاته محكومةٌ بطاعة ما يُطلب منه.
فكنا ننقسم، في تمثيلنا، إلى فريقين: أخيار ثائرين، ومخابرات أشرار. وكنا نصطنع الكمائن بين تلال القمح، فمرة نقع بأيدي المخابرات يوسعوننا قتلاً، في سبيل القتل والسطوة، أو في سبيل فرض الطاعة والخنوع، ومرة يقعون هم بين أيدينا فنوسعهم قدحاً وذمّاً وجلداً أخلاقيّاً وابتزازاً، في سبيل الايقاع بمن تبقّى منهم، بما أنّ عنصر المخابرات لا قيّم لديه، ومستعدٌ لأن يبيع، في سبيل خلاصه، حتى زوجته. كان بعضنا يحب دور المخابرات، وبعضنا كان يكره أن يلعب دورهم، وقد فاجأنا مرة عبد الكريم، بعد أن وقعت القرعة عليه، بالقول: “بقبل أنه ألعب دور المخابرات، بشرط انه ألعب دور عنصر حباب”، فقلبنا نحن على ظهورنا ضحكاً، لطالما أنّه ما من حبٍّ ولا محبّةٍ ولا لطافةٍ ولا خيرٍ، في فهمنا الريفي، لدى عنصر المخابرات. “ما في مخابرات حبابين يا فهيم”، هكذا أجبنا على أسئلة عبد الكريم الممتعضة من ضحكنا الساخر.
كانت كلّ نصوصنا ارتجاليّةٌ، تفرط في محاكاتها للواقع، إلى حدّ التطابق معه، في قبحه حيناً وفي قبحه وقد تحول، عبر السخرية، إلى جمالٍ، حيناً آخر. ولم نكن نجمّل في دراماتنا الريفية، كما يفعل أهل الشام، واقعاً لا جمال فيه، لطالما أن تجميل القبيح يعادل أحيانا تقبيح الجميل، بل كنّا نكتفي بأن نضيف لنقلنا الوفي للواقع شيئاً من السخريّة، لطالما أنّ السخرية انتصارٌ للمهزومين في الواقع، على صعيد المخيلة. ونتفرّد وحدنا، في نقلنا الأمين حتى للغة احتجاجنا، في أقسى أشكالها السلبية، لطالما أنّ السلب في لغة الاحتجاج مباحٌ، فما من لباقةٍ في الاحتجاج على القبح. هكذا كنّا نصرخ في دراما طفولتنا، في صراعنا التمثيليّ مع المخابرات، مختبئين في حفرٍ، في كوم القمح، في أرض البيدر، قائلين: “يا شباب اتخبوا، إجوا المخابرات. يلعن أبو المخابرات…ولك خ… على المخابرات!”.
التعليقات متوقفه