دولة الخلافة والمشيخجيّة الجاهليّة – أحمد اليوسف

دولة الخلافة والمشيخجيّة الجاهليّة

أحمد اليوسف

أحمد اليوسف

يروي لنا التاريخ أنّ نابليون افتتح بيانه الأوّل، بُعيد احتلاله مصر، بجملةٍ دينيّةٍ مفادها: “بسم الله الرحمن الرحيم”. وكأنّما قد نصحه أحدٌ ما، في حينها، بأن يلبس عباءة التديّن، إذا أراد أن يركب ظهور الناس ليحكمهم لأبديةٍ أو لأبديّتين. لحسن حظّ الناس أنّ نابليون لم يكن يجيد اللغة العربيّة، ليجلدهم بخطابٍ دينيٍّ وعظيٍّ يماهي فيه بين سطوته كخليفةٍ وبين إرادة الله. ومن طرافة التاريخ أيضاً ما حدث في سوريا في فترة ثورتها على الفرنسيين، حين أسَرَ الثوار جنوداً فرنسيّين، ففاجؤوهم بطلب ماءٍ للوضوء، ليكتشف الناس بأنّ الأسرى مغاربةٌ مسلمون، قدِموا بوصفهم جنوداً في الجيش الفرنسيّ، ليجاهدوا ضدّ الكفار في شام الأمويّين. من قال لهم بأن الشام بلاد كفرٍ!

كم هو محقٌّ فيلسوف الرشد، الشيخ القاضي ابن رشد، في قوله: إذا أردت أن تتحكّم في جاهلٍ، فعليك أن تغلّف كلّ باطلٍ بغلافٍ دينيٍّ. وغريبةٌ هي علاقة الجاهليّة بالدين، غرابةٌ تصل حدّ المفارقة! فدينٌ كالإسلام إنّما أتى كثورةٍ على جاهليّةٍ تبشّر بالوصاية، وتكفّر العقل، في حرصها الشديد على استمرار ثقافة الآباء. وكم هي كثيفةٌ وصلبةٌ ذهنيّة الجهل والجاهلية المنغلقة على نفسها، كصخرةٍ صمّاء أو كنفقٍ مسدودٍ يخاف كلّ أفقٍ! وليس الإسلام في جوهره إلا دين رشدٍ.

ومن أولى خواصّ الرشد رفض الإكراه، ونفي الوصاية، في خصامٍ مع جهل جاهليّةٍ تؤمن بالوصاية وبالإكراه نهجاً ورسالةً. وإذا كان الرشد، كما عايشه الرسول الكريم في محنة نبوّته، هو بحثٌ في وعن الخير والحقيقة والجمال، في كلّ زمانٍ ومكانٍ، حتّى ولو في الصين؛ فإنّ الجاهليّة هي نقيض هذا البحث تماماً، لأنّها تقلب الإيمان تسليماً كسولاً، وترث الأسئلة كما ترث الإجابات، كأن تقول في القرن الواحد والعشرين: بأيّ رِجلٍ ندخل البيوت؟ وقليلٌ من الرشد بنى لنا حضارةً وثقافةً لم تخجل من أن تبحث عن إجاباتٍ لأسئلتها في ثقافات الغير، بل عزّزت، في قيمها الثقافيّة، فضيلة الامتنان والاعتراف بفضائل الغير. ولا تسقط الحضارات بسبب قوّة خصومها فقط، بل بسبب عيوبها الداخليّة أيضاً. وفي حالة حضارتنا العربيّة الاسلاميّة، كان الجهل “أعيب” عيوبنا. وللجهل في ثقافتنا كهنوتٌ يحميه من كلّ رشدٍ، ويتمثّل في رجال الدين أو في ممتهني العمل الدينيّ. ورجالات ديننا هم حماة شيخوخةٍ ثقافيّةٍ مترهّلةٍ كسولةٍ، شحيحة العلم والمعرفة، تحوّل الدين من رشدٍ إلى طقوسٍ، والمعرفة من نهجٍ تساؤليٍّ بحثيٍّ غير ناجزٍ ويتجاوز نفسه باستمرارٍ، إلى نهج حفظٍ ورجوعٍ إلى الموروث الناجز، وإلى فهم الآباء مع طمأنينةٍ كسولةٍ تدين التساؤل بدلاً من أن تسعى إلى الإجابة عليه.

Print

وذهنيّة المشيخجية، كهنوت الوصاية والإكراه، أصبحت في زمن انحطاطنا الثقافيّ دِيناً سياسيّاً يجعل من الله رئيس حزبٍ، مع أنّه ما من تحزبٍ لدى الله. وليس لدولة الشيوخ من مشروعٍ سياسيٍّ، ولا من برنامجٍ ولا من فكرٍ، بل كلّ ما هنالك أنّها تحاول أن تستثمر في الفراغ، فتدخل أوطاناً كسوريّة، حيث ثار الشعب على الخليفة البعثيّ وعلى حكمه الاقصائيّ الوصائيّ القسريّ، لتطالب بدولة الخلافة الإسلاميّة، على الرغم من أنّ الخلافة، في دولة الإسلام، لم تكن إسلاميّةً وبحكم الله، وعلى الرغم من أنّ الله ليس حاكماً لأحدٍ، بل هو ربّ العالمين. هكذا، وباسم الله يمكنك أن تُكرِه الناس، وأن تُرعبهم وأن تقتلهم، إذا اضّطررت، وأن تحاصر مدنهم وأن تجلدهم، إذا أردت، تماماً كمن يحاكي، في نهجه الديني، نهج الخليفة البعثيّ التشبيحيّ الأسديّ. ما من شيءٍ غريبٍ في جهالة التديّن، إذا خلعت عنك عقلك؛ إذ يُروى عن قاتل فرج فودة، المفكّر الاسلاميّ، أنّه حين سئل عن سبب قتله له، أجاب بالقول: لأنّه كافرٌ. وحين سُئل عن موضع كفر الرجل، قال في كتبه. فقيل له: وأين كفر في كتبه؟ قال: “في كلّ كتبه”. فقيل له: “في أيّ كتابٍ بالتحديد، وفي أيّ موضعٍ منه”؟ قال المدافع عن دينه، على بساطته: “لا أعلم، فأنا لا أعرف القراءة”.

التعليقات متوقفه