الإخفاء والقتل في سجون هيئة تحرير الشام – الجمهورية
«سامحني أخي سامر لأني شكّيت للحظة أنك ممكن تكون غلطت»، بهذه العبارة علّق الصحفي محمد السلوم على حسابه في فيسبوك بعد نشر وكالة إباء التابعة لهيئة تحرير الشام تسجيلاً مصوراً، عرضت فيه اعترافات للناشط سامر السلوم شقيق محمد، انتُزعت منه في سجن العقاب التابع للهيئة، وتراوحت بين التعامل مع قاعدة حميميم الروسية وتشكيل خلية اغتيالات تابعة لقوات سورية الديمقراطية، وصولاً إلى اغتيال مقاتلين مهاجرين، دون أن يظهر في الفيديو أي اعتراف واضح من الهيئة بأنها قد قتلته، أو أي إشارة إلى مصيره.
يضيف محمد على صفحته على فيسبوك أن الشكوك كانت قد تسللت إلى نفسه نتيجة سيل التهم التي كان يتم ترويجها عن سامر، إلا أن شكوكه كلّها قد زالت بعد مشاهدته للفيديو، الذي تضمن اعترافات لا يمكن تصديقها بأي حال، والذي جاء ليؤكد أحاديث سابقة كان قد نقلها معتقلون تم الإفراج عنهم من سجون الهيئة، قالوا فيها إن سامر كان يتعرض لتعذيب رهيب بهدف انتزاع اعترافات منه. يقول محمد في حديث له مع الجمهورية: «عذّبوا سامر من أجل التصوير فرفض، ومن شدة التعذيب وافق بعد أن قلعوا أظافر أرجله عدة مرات، وقرأ التّهم التي أرادوها كما هي، تماماً كما سبق له أن فعل بعد جلسات تعذيب مماثلة في فرع فلسطين بدمشق، عندما اعتقله النظام لمدة أربعين يوماً عام 2007، وقال لنا بعد الإفراج عنه إنه اعترف حتى بأنه أمير تنظيم القاعدة في بلاد الشام».
يقول محمد إن شقيقه كان من أشد منتقدي سلوك هيئة تحرير الشام وتدخلها في حياة المدنيين في إدلب، ويصفه بأنه كان «لا يعرف المجاملة ولا التلاعب على الكلمات»، وهو ما أدى سابقاً لاعتقاله عدة مرات لدى أفرع النظام الأمنية، قبل الثورة، وبعدها في العام 2012 في حلب بتهمة التظاهر ضد النظام. وقد ازدادت حدة انتقادات سامر لهيئة تحرير الشام أواخر عام 2017، عندما تقدمت قوات النظام وسيطرت على عشرات القرى والبلدات شرق إدلب بشكل سريع ومفاجئ، فيما وُصف آنذاك بـ أحداث شرق السكة، ليتم اعتقاله من قبل عناصر ملثمين من منزل عائلته في مدينة كفرنبل هو وأحد أصدقائه، وذلك بتاريخ السادس والعشرين من كانون الأول 2017. يقول محمد إن العناصر الملثمين صادروا حينها كمبيوتراً محمولاً كان موجوداً في المنزل، وبعدها بأيام تمت سرقة سيارة سامر التي كانت مركونة في كراج للتصليح.
يتابع محمد: «مضى شهران ولم نسمع عن سامر أي خبر، حاولنا بشتى الوسائل الوصول إليه أو إلى أحد من المعنيين لكن دون جدوى، وهنا يبدو أنهم لم يتوصلوا إلى شيء يدينه فحاولوا اللعب بقذارة، حيث أنهم قاموا بمراسلتي عن طريق حساب فيسبوك مستعار لفتاة، وأخبرني الشخص الذي يتحدث من الحساب أنه صديقة قديمة لسامر، وأنها عرفت عبر صديق مشترك هرب من سجن الهيئة أن سامر قد اعترف بكل الأشياء التي كنا نخطط لها أنا وهو ضد الهيئة؛ حينها عرفتُ أن الحساب يعود لأحد عناصر الهيئة، لأننا لم نكن نخطط لشيء في الواقع، فأدركت أن الغاية هي الإيقاع بي وتجاهلت الأمر».
يقول محمد إن والده البالغ من العمر 60 عاماً كان يحاول بين الفينة والأخرى الوصول لأي خبر عن سامر، لكنّهم كانوا يعاملونه بإذلال، وخاصة المدعو جهاد الحسيني (25 عاماً)، الذي يشغل منصب «أمني» في الهيئة وهو من مدينة كفرنبل، والذي «عرفنا أنه هو المسؤول المباشر عن سامر، وأنه لا يسمح لأحد آخر بالتدخل في قضيته، حتى أن والدي عرض عليهم منزل سامر أو ثمنه بعد بيعه من أجل الوصول لأي خبر عنه، لكنه كان يُقابل في كل مرة بالقول إن القضية متعلقة بالحسيني حصراً».
يشير محمد السلوم إلى أن رائد الفارس، الذي اغتيل برفقة الناشط حمود جنيد خريف العام الماضي، قد أسرَّ له قبل استشهاده بأنه كان يخشى على وجه الخصوص جهاد الحسيني والشرعي في الهيئة بكفرنبل المدعو عبد الله الحمود، حيث أنهما كانا يتمتعان بسطوة كبيرة في المنطقة، وكان يحسب حسابهما لإجرامهما الشديد. وهذا الشخصان بالذات، هما من كانا يرفضان أي زيارة لسامر من قبل أي واحد من عائلته، بما في ذلك منعه من من رؤية أولاده الأربعة، الذين ولد آخرهم أثناء فترة اعتقاله. يضيف السلوم: «أكثر ما كان يسرّنا هو الأخبار التي كان يأتي بها الخارجون حديثاً عن سامر، إذ كان يطلب بعض الحاجيات فكنّا نودعها في المخافر المحيطة بسجن العقاب، التي تسمى بنقاط المتابعة، ولا نعلم إذا كانت تصل إليه أم لا».
في آذار عام 2019 وصلت أخبار لمحمد من أحد الخارجين حديثاً تقول إن شقيقه سامر قد تم إعدامه، ويقول محمد إنه لم يصدق الأمر في البداية، وبعدها انقطعت الأخبار بالتزامن مع نزوح العائلة عن كفرنبل في نيسان بسبب اشتداد القصف على ريف إدلب الجنوبي. بعدها بفترة جاء خبر مطابق من شخص آخر خرج حديثاً، ثم أخيراً في آب الماضي أخبرهم شخص ثالث بأن سامر قد أُعدم، مع تفاصيل عن الساعات الأخيرة السابقة للإعدام، فحينها استسلم محمد للأمر وتأكد أن الإعدام قد تم بالفعل، وبعد شيوع خبر تنفيذ الإعدام، قامت الهيئة بنشر الفيديو الذي يتضمن تلك الاعترافات الملفّقة.
يقول محمد: «كانت تهمة سامر الحقيقية الوحيدة أنه انتقد عمل الهيئة، وحين لم يستطيعوا تثبيت أي تهمة أخرى عليه، بدأوا يتفننون في صناعة تهم ويلصقونها به، حتى أنهم اتهموه بإدارة شبكة دعارة في المنطقة، وقد قال الحسيني لوالدي في آخر محاولة لرؤية سامر إن ابنك عميل لـشركة “لافارج” الفرنسية، التي كان لها معمل شمالي سورية وعمل فيها سامر بين عامي 2006 و2012 مسؤولاً عن قسم الشحن؛ لقد كانوا يبحثون عن أية تهمة تدين سامر، دون أن يشيروا إلى أن لافارج لم تكن إلّا مجرد معمل تصنيع إسمنت في الواقع».
سامر السلوم من مواليد دمشق عام 1985، وتعود أصوله إلى مدينة كفرنبل بريف إدلب الجنوبي، وهو حاصل على شهادة معهد النسيج، وناشط معارض للنظام السوري. لا يزال جثمان سامر لدى هيئة تحرير الشام، وبحسب أخيه فإن عدد الذين تم إعدامهم في الفترة التي أعدم فيها شقيقه بلغ نحو 45 شخصاً، بينهم ناشطون ومدنيون ومتهمون بالانتماء لداعش، أُلقيت جثثهم جميعاً في مقابر جماعية في منطقة قريبة من سجن العقاب بمنطقة جبل الزاوية، جنوب إدلب.
تشكّل حالة سامر صورة عن الكيفية التي تتعامل بها الهيئة مع المعتقلين لديها، الذين ما يزال كثيروين منهم مُغيبين في سجونها سيئة الصيت، حيث قدّرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان عددهم منذ الإعلان عن تأسيس تنظيم جبهة النصرة مطلع العام 2012 وحتى آب 2019 بما لا يقل عن ألفين وستة أشخاص، بينهم 23 طفلاً و59 سيدة.
وأضافت الشبكة في تقرير صدر بمناسبة إعدام الناشط سامر السلوم أن ما لا يقل عن 1946 من المعتقلين تحولوا إلى مختفين قسرياً، وسجَّل التقرير في المدة ذاتها مقتل ما لا يقل عن 24 شخصاً بينهم طفل واحد بسبب التعذيب، و38 حالة إعدام في مراكز الاحتجاز التابعة لهيئة تحرير الشام معظمهم لم تُسلَّم جثامينهم لذويهم.
وأكَّد التقرير أنَّ هيئة تحرير الشام تنتهك القانون الدولي الإنساني عبر عمليات الخطف والاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والقتل بإجراءات موجزة، وأنها أقصت جهاز القضاء والشرطة التي سمحت بتشكيله في مناطق سيطرتها، كما أشار إلى أن حالة الناشط سامر السلوم تُشكِّل واحدة من عشرات الحالات التي قامت هيئة تحرير الشام بإخفائها ثم قتل أصحابها دون إعلام ذويهم، ويأتي ذلك ضمن سياسة انتهاك أبسط حقوق الإنسان بهدف إرهاب المجتمع وإخضاعه لسيطرتها.
وقالت منظمة هيومن رايتس ووتش في كانون الثاني الفائت إن هيئة تحرير الشام، التي لها صلات بتنظيم القاعدة، اعتقلت في الأشهر الأخيرة عدداً كبيراً من السكان في مناطق من محافظات إدلب حماة وحلب. ووثقت المنظمة إحدى عشرة حالة احتجزت فيها الهيئة سكاناً من إدلب بسبب عملهم السلمي الذي يوثق الانتهاكات أو الاحتجاج على حكمها، ويبدو أن ستة من هؤلاء المعتقلين تعرضوا للتعذيب، وقالت إن مجموعات حقوق الإنسان السورية وثّقت أيضاً مئات حالات الاعتقال الأخرى من قبل الهيئة في محافظتي حلب وإدلب، بما في ذلك 184 على الأقل منذ أيلول 2018.
يقول رئيس هيئة القانونيين السوريين الأحرار، القاضي خالد شهاب الدين، للجمهورية: «لا أعتقد أن المعتقلين في سجون الهيئة يُقدَّمون إلى محاكمات من أي نوع، وإذا كانوا يقدمون للمحاكم التابعة للهيئة أو تلك التابعة لما تسمى حكومة الإنقاذ فهي أحكام لاغية ولا قيمة قانونية لها، لعدم استنادها إلى أي إجراءات قضائية معتبرة، بل إنها ترجع إلى رغبة القائمين عليها، فلا يصح أن يكون طرفٌ هو الخصم والحكم في آن معاً»، وهذا ما يؤكده معتقلون سابقون في حديثهم للجمهورية حول المحاكمات الصورية التي تعرضوا لها.
يقول الصحفي والمعتقل السابق في سجون الهيئة يعرب الدالي للجمهورية: «كنت أتعرض للضرب والإهانة والتعذيب بشكل خاص فقط لكوني صحفياً، وكنت أُعرَض على القاضي وكان يتلاعب بي في كل مرة، فمرة يحكم عليَّ بحفر الخنادق ومرة بحمل الحجارة، ومرة بالركض تحت أشعة الشمس الحارقة. كنت أتعرض للضرب من قبل السجانين والعناصر، كانوا يلقبونني بـ “الصحفي” وهذا كان سبباً كافياً كي أتلقى كل يوم سيلاً من الشتائم والضرب والعقوبات. لقد ضُربت مرات عديدة حتى أغمي عليّ، كنت أخبرهم أن لدي مرضاً في رأسي، وكان ذلك سبباً لزيادة جرعة التعذيب».
لم تنجح كل هذه التقارير والشهادات بتشكيل حالة ضغط على الهيئة وجهازها الأمني المتحكم بالحياة العامة للمدنيين، وخاصة الناشطين، وبالرغم من ظروف الحرب الإبادية التي يشنها النظام وحلفاؤه على المنطقة، تواصل هيئة تحرير الشام انتهاكاتها، خاصة بحق النشطاء الإعلاميين، وتواصل تنفيذ الاعتقالات دون الاستناد إلى أي إجراءات قضائية، وكان آخرها احتجاز الصحفي محمد دعبول مراسل مركز إدلب الإعلامي، وفاتح رسلان الذي يعمل مع وكالة خطوة الإخبارية، اللذين تم اعتقالهما قبل أيام دون إعلان أي أسباب حتى الآن.
التعليقات متوقفه