سوريون يهاجرون إلى وطنهم بعد أحلام ضاعت في مهب الريح – وضحى العثمان

الغربال – قد تكون التجربة السورية فريدة في العصر الحديث ولايمكن قياسها بتجارب أخرى مرت بها الشعوب في سعيها لتحقيق الحرية والعيش بكرامة في ظل أوطانها ، لاقى الحلم السوري القمع من السلطات الحاكمة التي استخدمت شتى أنواع الأسلحة لتثني الشعب عن ثورته بدءاً من قذائف المورتر والدبابات إلى الطيران الحربي ، تلك الأسلحة لم تقتل فحسب بل خلقت حالة من التشظي عاشها المجتمع السوري رمت به إلى أصقاع الأرض بحثا عن شيء يشبه الحياة، أفواج من السوريين الحالمين بحياة أفضل عبروا البحر والغابات والسهول لعلهم يعيشون بسلام ويحققون أحلامهم التي لم يتسع لها وطنهم.
لم يكن يعلم السوري أنه سيقف أمام سيل من الواجبات التي توازي مايحصل عليه من حقوق وأنه مطالب بتعلم اللغة الجديدة بأسرع وقت والتأقلم مع ثقافة البلد المغايرة لما نشأ عليه ربما عاش البعض من المهاجرين السوريين مايمكن تسميته بالصدمة التي تفسر تصاعد موجات الهجرة العكسية وتزايد أعداد السوريين المهاجرين عكسيا من دول أوروبا إلى تركيا أو حتى إلى وطنهم الأم سوريا بحثا عن استقرار لم يجدوه في بلاد المهجر.
تحديات كبيرة تفوق إمكانيات المهجرين ومقدرتهم على تخطيها
/بسام/ فلاح من ريف ادلب وأب لثلاثة أطفال /بسام/ الذي فقد إحدى ذراعيه في غاره جوية للطيران الحربي على مدينته وكان من أوائل المهاجرين لأوروبا قال:
” مع تزايد هجرة السوريين لأوروبا وما سمعناه عن الأوضاع المعيشية الجيدة فيها وما يقدم للسوريين من خدمات مجانية وكذلك سعيا مني لتركيب طرف ذكي بعد حدوث بتر إحدى يدي، قررت أن أقوم ببيع الارض التي كنت أعيش منها سابقا وأهاجر مع عائلتي إلى ألمانيا”
ويقول /بسام/ ” لا يوجد وصف لطريق الهجرة سوى /رحلة الموت/ ابتداء من تكاليف عملية التهريب وانتهاء بصعوبة الطريق وطوله عابرين البحر والبر، بين قوارب التهريب الصغيرة التي حملت فوق استطاعتها وغابات كبيرة تكاد لا تنتهي.
كانت أمورنا جيدة في البداية وبدأنا نتطلع لمستقبل مشرق وأمل بالحياة من جديد، كان ضروريا أن يتقن أحد الأبوين على الأقل اللغة الألمانية كما أوضحت المسؤولة الأسرية عن عائلتي وهنا بدأت معاناتي مع اللغة وصعوباتها فأنا رجل بسيط وغير متعلم ورغم كل المحاولات لم أتمكن من إدراك حتى أبسط مبادئها وكذا كان الأمر بالنسبة لزوجتي حيث لم يكن من الممكن أصلا أن تترك الأطفال معي في حالتي هذه وتلتحق بدورات تعلم اللغة ، مرت الأيام رتيبة دون أي تغيير وفي أحد الاجتماعات الدورية مع المسؤولة الأسرية وجدالها معنا بسبب موضوع تعلم اللغة أبلغتنا أنا وزوجتي أننا غير مؤهلين وغير قادرين على رعاية الأولاد بشكل صحيح ، ولم أفهم مغزى كلامها أول الأمر ولكن لاحقا من خلال تواصلي مع طبيب سوري مقيم في ألمانيا منذ ٣٠ سنة وبعد أن أخبرته بما حدث في الاجتماع أخبرني بانهم سيقومون بأخذ الأطفال مني بحجة عدم أهليتي لرعايتهم.
وعندها ساءت حالتي النفسية جدا وبدأت أعيش صراعا داخليا عنيفا فقد كنت حصلت على موافقة لتركيب طرف ذكي خلال فترة قريبة ولكن تزايد الخوف داخلي من فقدان أبنائي لذلك قررت الفرار بهم ، وكان للطبيب نفسه فضل كبير بأن ساعدني بدفع ثمن تذاكر حجز الطيران وكذلك مبالغ إضافية أخرى للسماح لي بالسفر حيث لم يكن مسموحا لنا بالسفر مع الأطفال وخصوصا أن إقامتنا كانت ستنتهي بعد شهرين.
وبعد وصولنا الى اليونان بدأ الجزء الأصعب من رحلة العودة حيث بقينا ٣ أيام دون طعام في الغابات إلى أن تعرفت على امرأة عراقية عرضت مساعدتنا عن طريق شاب تعرفه من /دير الزور/ قام لاحقا بتسليمنا لأشخاص لم أعلم حقيقتهم إن كانوا شرطة أو عصابات أو غير ذلك حيث قاموا بأخذ كل ما كان معي من مال وأوصلوني للحدود التركية.
وأنا الآن أعاني من وضع معيشي صعب بسبب ضعف الامكانات المتاحة هنا وانعدام فرص العمل في حالتي و خسارتي لكل ما أملك من مال على طريق الهجرة وتبدد أحلامي بالحصول على طرف ذكي بعد أن خيرت بينه وبين خسارة أبنائي.
تعقيدات في الحصول على قرار لم الشمل
أما /سامر/ هو ممن عانوا من أيضا من متاعب الهجرة والهجرة العكسية قال:
” كنت مواظبا على تعلم اللغة رغم صعوبتها و لم أدخر جهدا في سبيل التأقلم مع المجتمع الجديد ولكن ذلك لم يكن كافيا فلم أتمكن بشتى الطرق من إحضار زوجتي وإتمام إجراءات لم الشمل المعقدة لعدم وجود وثائق رسمية لعقد الزواج ووثائق أخرى مطلوبة لذلك آثرت على نفسي العودة إلى تركيا في رحلة كانت حقا أشبه بأفلام الرعب، حتى ظننت أني لن أصل لولا رحمة الله لي ووصولي بعد عناء طويل إلى تركيا، والحكاية تتكرر هنا فيجب علي أن أبدأ بتعلم اللغة التركية والبدء بمحاولة التأقلم وما يحتاجه ذلك من وقت يضاف للسنوات الماضية التي مرت دون أن أقوم بأي إنجاز يذكر فيها”

بين الحلم في الاستقرار وعادات المجتمع الغربي كانت العودة هي الخيار الأرحم
أما قصة /منال/ السيدة السورية اللطيفة من مدينة حمص هاجرت مع ابنتيها الصغيرتين بحثا عن حياة أفضل وبداية جديدة بعد أن فقدت زوجها وأبناءها في حمص، تقول /منال” أردت الأفضل لبناتي بعد أن فقدت زوجي وولديَّ في حمص ، أرادت لطفلتيها أن تحصلا على تعليم متميز وتعيشا حياة سعيدة بعيدا عن القتل والقصف وذكريات الموت ، وكانت فعلا بداية جديدة ، تعليم ممتاز وسكن مريح ورعاية صحية مجانية إضافة للمساعدات المالية الشهرية وبدا كل شيء يسير نحن الأفضل ، ومع الوقت بدأت أفقد السيطرة على ابنتي وبدا تأثرهما واضحا بأفكار المجتمع الغربي وعاداته كلتاهما ما تزالان في بداية المراهقة وما نتج عن ذلك التأثر من تغير في السلوك والأفكار سبب لي خوفا حقيقيا على مستقبلهما وعلاقتي بهما ووجدت نفسي أمام خيار وحيد وهو الخروج بهما من هذا المجتمع الغريب رغم علمي مسبقا بخطورة الهجرة العكسية وخصوصا في حالتنا مع عدم وجود رجل يرافقنا، ولكن الأمر كان يستحق أخذ هذه المخاطرة و رحلة العودة باتت معروفة للسوريين طائرة من ألمانيا إلى اليونان ثم سير في الغابات لأيام متواصلة دون توقف وبعدها ركوب البحر في زوارق الصيد للوصول الى تركيا ، ولم أتمكن حتى الآن من إيجاد عمل يحقق لي ولأسرتي استقرارا مقبولا لذلك قررت أن أسعى لإيجاد طريقة تمكنني من العودة إلى بلدي ومدينتي علني أجد فيها حياة كريمة بعد كل هذا العناء.

سنوات ضاعت بانتظار مقاعد في الجامعات لم يحصلوا عليها
أما / سمر/ فهي فتاة سورية في عمر الربيع من محافظة حلب هاجرت برفقة أخيها وعائلته إلى دول أوروبا بحثا عن أمل لتحقيق دراسة جامعية أفضل.
تقول / سمر /: ” التعليم الجامعي كان هدفي من السفر إلى البلاد الأوروبية ولكن الحلم تبدد عندما وصلت .وبدأت رحلة الضياع حيث اكملت ثلاث سنوات بحثا عن قبول في الجامعات الألمانية التي رفضت وثيقة الامتحان المعياري للشهادة الثانوية الذي كنت قد قدمته في تركيا . والتي حسب قولهم غير معترف بها عندهم.
ثلاث سنوات ضاعت من عمري دون أن أخطو خطوة واحدة نحو المستقبل العلمي، وخلال تواصلي مع صديقاتي اللاتي بقين في سوريا علمت أنه تم افتتاح جامعات في المناطق المحررة في سوريا وأنهن التحقن بكليات مختلفة فيها، وكذلك علمت بتوفر فرص للقبول في جامعات تركية مختلفة ضمن نظام المنح هناك و لهذا قررت العودة الى تركيا مع شاب وزوجته لم يتمكنا من تقبل حياة المجتمع الغربي وحريته ”
وفي اجابتها عن سؤالي عن واقع حياة الشباب السوري في أوروبا قالت ” الصورة الحقيقية تختلف تماما عن ما كنا نسمع أو نتوقع ،فحالتي لم تكن فريدة أبدا فهناك عدد كبير جدا من الشباب لم يتمكنوا من الالتحاق بالجامعات أو متابعة تعليمهم إما لعدم قبول أوراقهم أو لصعوبات تتعلق بتعلم اللغة و غيرها، والأحلام الذهبية في دول أوروبا لم تكن إلا وهما يخفي خلفه واقعا أسودا قاسيا”
شواطئ تركيا تستقبل عشرات العائدين شهرياً
/ أحمد سعيد/ أحد الذين امتهنوا التهريب عير البحر بين تركيا واليونان كمصدر للرزق وفي محاولة للوقوف على حجم الهجرات العكسية وفي حديثنا معه قال:
“شهدت الأشهر الأخيرة تغير ملحوظا في العمل مع ارتفاع أعداد الأشخاص الذين يقصدون طريق العودة مقارنة بالمهاجرين ذهابا إلى أوروبا، حيث أن عشرات الأشخاص باتوا يعبرون شهريا من اليونان إلى تركيا وأصبح العدد أكبر من أعداد المهاجرين إلى اليونان بشكل واضح”
كما يبدو فإن قسما من السوريين تمكنوا من التأقلم مع واقعهم الجديد في المجتمع الذي انتقلوا إليه ولكن يبقى القسم الأكبر عالقا في دوامة الاختلاف و صعوبات الاندماج فيه، فانضباط الوقت ونظام الحياة اليومي يختلف بشكل جذري عما كانوا يعيشونه سابقا في بلادهم ، كما أن وجودهم ضمن مجمعات خاصة ( كامب ) فرض على البعض واقعا أشبه بالسجن من خلال تقييد ساعات الخروج والدخول ،كل هذا وأكثر كان أكبر من قدرتهم على التحمل لذلك فضلوا العودة إما الى تركيا مع انخفاض فرص العمل فيها أو إلى سوريا رغم مصاعب المعيشة وفقدان الأمن فيها.

التعليقات متوقفه