أطفالنا تركة الحرب الثقيلة – أحمد الصباح

ترك النزوح المتكرر في الداخل والهجرة في بعض الأحيان، ندباً واضحة في نفوس جيل كامل من الأطفال واليافعين ورمى بهم في مستنقعات وخيمة من التخبط في فترة عمرية يفترض أن ينالوا فيها وجبات أكبر من الرعاية والاهتمام من مجتمعاتهم.

وغدا مصطلح “الكارثة الإنسانية” التوصيف الأكثر دقة لما تعيشه سوريا الآن, فالأوضاع السائدة لم تعد مجرد انعكاسات لصراع ظهرت نتائجه السلبية على جميع الأصعدة والقطاعات منذ سنوات، وإنما أصبح الوضع الراهن مأساة يعيشها السوريون، وواقعاً يومياً يفرز ثقافة جديدة ومعطيات متغيرة تؤثر على الأطفال سواء وُجدوا داخل أو خارج سوريا.

 

أثر الحرب النفسي على الأطفال:

خلفت الحرب في سوريا آثاراً نفسية مريعة، فعدا عن الصدمات الناجمة عن فقدان الأهل والأصدقاء، وتدمير المنازل، والتشريد، والحرمان من التعليم، كانت مشاهد أعمال العنف وعمليات القتل والإعدام والرجم، فضلاً عن عشرات آلاف الأيتام وذوي الإعاقة من جراء الحرب.

محمد السلوم مدير مجلة زورق للأطفال قال لـلغربال: “إن الأثر النفسي للحرب على الأطفال هو أثر عميق ومخيف وللأسف لن يُمحى بسهولة، ويظهر جلياً على الأطفال الذين استطاعوا الخروج خارج القطر, فهؤلاء يعرفون جيداً كيف يرتعب الطفل عندما يشاهد طيارة مدنية أو هيلوكوبتر في رحلة سياحية من مدينة إلى أخرى, أو طيارة إسعاف وهو يعلم أن هذه الطيارة صنعت لتمارس القصف على الأطفال”.

وأضاف السلوم: “تسببت مظاهر الهلع والخوف بحالات التبول اللاإرادي عند البعض، والفشل الدراسي، كما تسببت مشاهد العنف التي يراها الأطفال بتعاملهم العنيف فيما بينهم، فأصبح الطفل يميل للعنف مع أصدقائه ويفضل الألعاب التي تحوي أسلحة وسجن وقتل، كل ما سبق هي آثار نفسية  تهدد جيل كامل ليس بالسهل تجاوزها في ظل غياب مرشدين اجتماعيين ونفسيين في المدارس أو في أماكن وجود الأطفال”.

ومن جانبه قال عمر عبد العزيز العامل في مركز للدعم النفسي والاجتماعي للأطفال: “إن فقدان الاهتمام عند الأطفال بالإضافة إلى فقدان الحاجات الرئيسية يتسبب بآثار نفسية سيئة على الأطفال، كأمراض اضطرابات النماء, والتوحد والذي ينتج عنه نقص الاهتمام والتخلف العقلي بسبب نقص الغذاء الجيد، إضافة الى الاضطرابات النفسية الارتكاسية كالقلق عند الأطفال، وردود فعل كالتبول اللاإرادي ومص الإصبع، وقضم الأظافر، وبالتالي الفشل الدراسي واضطرابات سلوكية.

استخدم الكاتب أرنست همنغواي مصطلح “الجيل الضائع” في روايتيه “الشمس تشرق أيضاً” و”وليمة متنقّلة” للإشارة إلى الشباب الذي بلغ مرحلة النضج خلال الحرب العالمية الأولى والفترة القصيرة بعدها، وهو تعبير قال همنغواي إنه اقتبسه عن مستشارته جيرتورد شتاين للدلالة على ضياع صفوة المستقبل بسبب الحرب.

 

أثر عسكرة الحياة المدنية على الأطفال والشباب من ناحية ترك التعليم والتوجه لساحات القتال:      

ومن أخطر النتائج التي تفرزها مشاهد العنف والسلاح في سورية ظهور معارك حقيقية بين الأطفال الذين باتوا يمتشقون في الشوارع مسدسات وبنادق بلاستيكية يطلقون النار على بعضهم في مشهد يُحاكي الواقع الذي يعيشونه, ناهيك عن التحاق البعض بمعسكرات تدريبية وانضمامهم في بعض الأحيان إلى المجاميع العسكرية والقتال إلى جانبهم.

وتابع عمر عبد العزيز: “هذا الأمر سيؤدي إلى نشوء جيل جاهل غير قادر على مواكبة النهضات العلمية والمعرفية ولا حتى الأمور العسكرية الحديثة التي توجهوا إليها بالأصل”.

وأضاف محمد السلوم: “إن إرسال الأهل أولادهم إلى هذه المعسكرات رغبة في جني المال, ساهم في خلق جيل من المقاتلين الصغار دون إدراك خطورة هذا الشيء, حيث لا يمكن إصلاحهم لصعوبته وخطورته، وهم بمثابة قنابل موقوتة قادرة على فعل أي شيء دون وجود محاكمة أو مراجعة ذاتية لأنهم تربوا ضمن هذه الظروف وفي هذه الطريقة , ولهذا يجب التعامل معهم بالطريقة الصحيحة”.

وذهبت السيدة مريم مديرة مدرسة في العلم نرتقي إلى أن: “عسكرة الثورة أثرت على الأطفال ونشرت بعض الأفكار العسكرية بينهم من قبل بعض الأشخاص لاستغلال طفولتهم وزجهم في هذه الحرب الدامية، وهو ما جعلهم يتجهون للقتال بدل التعليم، هذا عدا عن الذين تركوا تعليمهم بسبب الخوف من القصف المستمر للمدارس، وصعوبة سبل العيش، وعدم تواجد جامعات تلبي رغباتهم فيما بعد”.

ونوه عبد العزيز إلى: “إن سبب إحجام الأطفال والشباب من الذكور عن الدراسة، واتجاههم لحمل السلاح يعود لأن الذكور مستهدفون عادة في حالات الصراع والحروب فيتم التوجه إليهم في حال وجود رغبة في إجهاض تقدم أية أمة، فهم الفئة الموكلة بنهوض الأمم، وهم الفئة القادرة على القتال وحمل السلاح، وبالتالي يتم الاعتماد عليهم غالباً”.

 

عمالة الأطفال وانتشار الجريمة في أوساطهم:

مفردات جديدة عرفت طريقها إلى عقول أطفال سورية, هي مفردات الحرب بكل قسوتها, فلم تعد تستغرب أن يعرف طفل جميع أنواع السلاح اعتماداً على صوته أو يعرف نوع الطائرة وموقعها لمجرد سماح صوتها وصوت الصواريخ التي تطلقها.

ولعل الأحداث والظروف التي يعيشها المجتمع السوري على الصعيد الأمني والاقتصادي والاجتماعي خلفت بدورها ظروفاً معيشية صعبة واستثنائية، تركت بصماتها وآثارها السلبية على مختلف مجالات الحياة ومن بين ذلك ظاهرة عمالة الأطفال.

وعزت مريم مديرة مدرسة بالعلم نرتقي أسباب عمالة الأطفال إلى أن بعضهم من يعيل أسرة لأب معاق أو فاقد له في الحرب أو بسبب كبر الأسرة وحاجتها لأكثر من معيل وقلة العمل للكبار وغلاء المعيشة، مما أدى إلى انتشار ظاهرة عمالة الأطفال وبكثرة، وخاصة في المناطق والمدن التي تؤوي أعداداً كبيرة من النازحين .

وأضافت: “إن حرمان الأطفال من حقوقهم بالتعليم والحياة الكريمة -بغض النظر عن الأسباب- وإدخالهم في عالم بعيد عن عالمهم كل البعد، يجعلهم يفقدون حسهم الطفولي ويكتسبون عادات شاذة ويتعلمون تصرفات لا تنسجم مع طفولتهم البريئة، اضطروا لتعلمها بسبب الاحتكاك اليومي بذاك المجتمع الذي لا يناسب أعمارهم ولا عقولهم التي لم تنضج بعد لتميز الصحيح من الخاطئ.”

 

في حين أشار عمر عبد العزيز إلى أن: “أدلجة عقول اليافعين وانخراطهم في أعمال لا تناسب أعمارهم، يعود إلى أن هذه الفئة هي الفئة الأسهل لتغييرها والتحكم بها وتوجيهها نحو الأهداف المرجوة، وبالتالي يمكن استغلالها للقيام بأعمال أكبر من عمرها دون مناقشة منها أو اعتراض”.

وأكد عبد العزيز أن: ” تعتبر ظاهرة عمالة الأطفال مؤشراً خطيراً يؤثر سلباً على المجتمع، بحيث يتحول هؤلاء الأطفال أو الشبان إلى طاقة هدّامة تؤثر على سلامة مجتمعاتهم، مما يصدّر لهذا المجتمع جيلاً شاباً أمياً غير متعلم، وعالة على هذا المجتمع لا ينتج إلا الكثير من المشاكل الاجتماعية، ومنها التحول إلى الجريمة أو الدخول في عالم المخدرات والانحرافات التي لا تنتهي، والتي سببها حرمان الطفل من الحنان والأمان ومن طفولته الطبيعية.”

 

دور منظمات المجتمع المدني وتدخلها في التخفيف من آثار الحرب على هذه الشرائح.

يعيش عشرات  آلاف الأطفال السوريين مأساة حقيقية تكمن في تخلي المنظمات الإنسانية عن أنشطة حقيقية تروح قليلاً عنهم، وتنسيهم وجع الحرب وتداعياتها، فالكثير من الأطفال باتوا يعانون من العدوانية والعزلة والخوف وعدم القدرة على التكيف مع أي بيئة أخرى، والأمر لم يعد مقصوراً على الأطفال، فالكثير من المراهقين يعانون الأمرين من موضوع عدم التكيف مع أية بيئة أخرى.

لذلك كان للمنظمات المدنية دور هام  في تحجيم هذه المشكلة وعلاجها والتخفيف من آثار الحرب، بنشر الوعي الثقافي والاجتماعي والصحي والديني ودعمهم نفسياً، وإشغالهم بما فيه فائدة لهم وإيجاد المختصين بهذا الأمر.

وبينت حنان العاملة في مركز الدعم النفسي للأطفال: “إن الكثير من المنظمات الناشئة حديثاً تنطحت لتقديم خدمات الدعم النفسي للأطفال، والتي على الأغلب لا تملك الكوادر الأكاديمية المتخصصة بتقديم تلك الخدمات الخاصة جداً للأطفال السوريين، الذين تعرضوا لضغوطات نفسية لا تطاق، واقتصرت الكوادر العاملة على المتطوعين والمتطوعات ممن لا يملكون مؤهلات علمية عالية، إنما اكتسبوا خبرة عملية كبيرة من خلال تجربتهم العميقة بهذا المجال خلال سنوات الحرب وأغلبهم من العاملين في المجال التربوي والتدريسي سابقاً”.

وأضافت حنان أن المنظمات الدولية تتسابق للعمل بهذا المجال لسهولة تحصيل الدعم للأنشطة الخاصة بالطفل، وبالتالي تتهافت الجهات المنفذة بالداخل للتعاقد مع من يملكون أي فكرة عن الدعم النفسي للأطفال من أجل الحصول على تمويل لمشروعاتهم، ورغم وجود الكثير من المراكز الخاصة بدعم الطفل التي تقوم عليها منظمات محلية بعضها ممول والآخر يعمل بشكل تطوعي إلا أن الحاجة ما تزال ماسة وكبيرة للمزيد”.

 

وبعيداً عن الدعم النفسي أقام مجموعة من الشبان معهداً مهنياً، لاستقبال الراغبين في الحصول على الدعم المهني، وعن ذلك يقول محمود في حديث للـ “الغربال” إلى أنهم في المعهد “يستقبلون الأطفال من عمر 13عام ويقومون بتدريبهم على المهن التي يرغبون بتعلمها كالنجارة والحدادة والدهان وغير ذلك، وعلى اعتبار أن ساعات الدوام طويلة ويومية يجد الطالب نفسه منخرطاً في تعلم المهنة التي قد يؤمن من خلالها حياة كريمة لعائلته ومستقبلاً جيداً, كما يقدم المعهد تعويضاً شهرياً صغيراً للمتعلم يكفيه حاجاته الأساسية وربما يساعد من خلاله عائلته”.

مصطفى أحد أولئك اليافعين، ويبلغ /14/عاماً، يقول للغربال: “عملت بعدة مهن للمساعدة في إعالة عائلتي الكبيرة في ظل هذه الظروف الصعبة, وانخرطت منذ ستة شهور في المعهد لأتعلم مهنة النجارة العربية، حيث يملك المعهد كل التجهيزات اللازمة لذلك، وبذلك استطعت ضمان مستقبلي ومساعدة عائلتي من خلال التعويض في نفس الوقت”.

 

إن ما يعيشه أطفالنا من مشاكل نفسية ومجتمعية هو نتيجة حتمية ترافق الحروب عادة، ولكن وعينا للمشكلة هو الذي يستطيع أن يحد منها، وعليه يجب أن تتضافر جهود المنظمات لإبقاء الأطفال على المسار الصحيح، وحمايتهم من التشرد والفقر والعمالة والاستغلال في الحروب، وتوعية الأهل بطرق ناجعة للتعامل مع الأطفال في هذه الظروف غير الطبيعية.

 

التعليقات متوقفه