العمل المحلي.. إكتفاء ذاتي وبناء مستقبل للسوريين – عامر عبد السلام

انطلق إيهاب الشامي في مشروعه لصناعة الأغذية، بأدوات بسيطة مع مشاركة بعض من أصدقائه في المناطق شبه المحاصرة، ليمد منطقته بالأغذية المعلبة والمصنوعة نصف يدوياً، إذ استثمر إيهاب دراسة إدارة الأعمال بمشروعه الخاص، فلا معامل كبيرة في المناطق شبه المحاصرة، ولا أعمال يقتات منها الشباب أمثاله.

يظن البعض أن المشاريع الصغيرة أو متناهية الصغر، تنتهي بعد فترة من الزمن، لكن هذه المشاريع بحجومها الصغيرة، تصنع فارقاً في المناطق المحاصرة وشبه المحاصرة، حسب وصف إيهاب، إذ تعد المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر عصب الاقتصاد في المجتمعات المحلية والمناطق السورية المختلفة، وأضاف أن الاقتصاد السوري منذ الأزل قائم على هذه المشاريع إذ تشكل نحو 95 % من بنيته التحتية وما يزال.

تبدأ المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر من الصفر، وتعمل على تحفيز العمل الحر وتنمية المهارات والتكيّف السريع لعوامل العرض والطلب المتغيرة للسوق، عدا عن توليد توليد فرص عمل مع قابلية كبيرة لامتصاص العمالة، وفقاً للخبير الاقتصادي حسن عبد الحميد، ففي كافة الدول، تبدأ هذه المشاريع بتمويلات صغيرة، لتنهض وتبدأ عجلة الإنتاج، إلا أن طبيعة المنطقة التي بدأت بها هذه المشاريع، والحصار الكامل أو شبه الحصار، يمنع أي دعم لهذه المشاريع، لذا تبدأ من أيدي سورية وبأموال سورية، لتنهض بها المنطقة، وتصبح شبه اقتصاد دولة داخل الدولة.

وفسر الشامي مقولة اقتصاد دولة داخل الدولة، بأن الاكتفاء الذاتي الذي تعيشه هذه المناطق في بعض الأحيان، يجعل من اقتصادها مشابه لاقتصادات دول، فالحصارات الخانقة خلقت أفكاراً كبيرة، من المشاريع الزراعية للمشاريع الصناعية، ما جعل هناك عملية التكامل الاقتصادي بين المشاريع، وهو ما خلق أيضاً بيئة تنهض بذاتها، مع الضرورة في بعض الأحيان للاستعانة بالمصادر الخارجية، أي تهريب المواد الأولية أو تصدير المصنوعات للمناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية الحالية.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها ألمانيا مدمرة تماما، اتبعت اقتصاد السوق الاجتماعي المناسب للوضع الالماني و الذي وضعه لودفيج إيرهارت، فأسس المجتمع المدني شركات تساهمية للإنتاج وإعادة البناء تعززها في ذلك المصارف والبنوك والتي باتت تُعرف اليوم بشركات مثل مرسيدس بنز وفولكسفاجن وباير للأدوية والصناعات الكيميائية، وشركات مساهمة للحديد والصلب مثل كروب وسيمنز وغيرها,  حتى إنتاج الكهرباء تقوم به شركات مساهمة أهلية تمتلك نحو 19 مفاعلا نوويا لإنتاج الكهرباء.

ولكن هذا ليس إلا واجهة لمجموعة شركات تنمو مع الوقت تقف خلف هذه الواجهة, فالشركات المتوسطة تساهم بإنتاج منتوجات تحتاجها المصانع الكبرى في صناعاتها, مثل شركات الزجاج والجلود والاطارات التي تستخدمها شركات السيارات الكبيرة في التصنيع, كما تُنتج الشركات المساهمة المتوسطة منتوجات يحتاجها الأفراد على مستوى الاستهلاك الشخصي كالمعلبات ومواد التنظيف والاثاث. ويأتي هنا دور شركات متوسطة أهلية من نوع أخر تقدم خدمات التسويق والتوصيل بين الطرفين مما يخلق مزيداً من فرص العمل.

يشرح عبد الحميد دور المشاريع الصغيرة والمتناهية في ظل الحرب المستمرة والفوضى وعدم تطبيق القانون، بأنها أنقذت آلاف العائلات، وحققت لها مدخولاً معقولاً بنحو 500 دولار شهرياً، وفقاً لعوامل وظروف وآلية العمل، وأضاف عبد الحميد بأن تلك المشاريع أرست دعائم اقتصادية مرنة وديناميكية، إذ تتشابك هذه المشاريع فيما بينها، مكملة احتياجات بعضها البعض، من خلال ابتكار مهن جديدة أو إحياء مهن قديمة، مستفيدة بقدر الإمكان من كافة الإمكانات المتاحة في المناطق التي تعيش بها.

فالمشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر تحقق أهم ثلاثة أهداف، وفقاً لعبد الحميد، أولها خفض معدل البطالة، فكافة المناطق المحاصرة أو شبه المحاصرة، تضم في جنباتها المئات إن لم نقل الآلاف من العاطلين عن العمل، وبعملية توظيف فرصة عمل نعمل على زيادة الدخل المادي، ما يؤدي إلى إعالة أسرة فيسهم في تحسين مستوى معيشتها، أماثالثاً فهو على مستوى اقتصاد المنطقة إن لم نقل الدولة، وهو عملية تكامل المشروعات وتعاونها فيما بينها، ما يخلق قيمة مضافة على أي منتج يباع في السوق.

ونجد أن المصانع والشركات الكبيرة تتعاقد مع الكثير من المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر لتتم عملية الصناعات التكميلة، وفقاً للمحلل المالي محمد العمر، الذي أضاف أن أصحاب المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر قادرين على الإنتاج، بأقل تكلفة ومواصفات عالية الجودة، إضافة لتنوع المنتجات وقدرتهم على العمل لفترات طويلة وبأسعار منافسة.

وتكتسب المشاريع الصغيرة والمتناهية في الصغر أهمية كبيرة على الساحة الاقتصادية العالمية، فهي تُشكل العمود الفقري للاقتصاد العالمي مُشكلةً  نحو 95% من مجموع مشروعاته، كما أنها توفر فرص العمل لأعداد كبيرة من القوى العاملة في الدول المختلفة، ووفقاً لدراسة دراسة حول واقع المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر في سورية، للباحث مهند دلال، الذي أضاف أن المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر تتركز بنسبة كبيرة في محافظات دمشق وريف دمشق وحلب، إذ تصل نسبة المشروعات في هذه المحافظات الثلاث إلى أكثر من 51% من المشروعات السورية بمختلف أحجامها، كتقدير إحصائي، وهذه نتيجة طبيعية للتنمية غير المتوازنة الموجودة بقوة في سورية فيما بين المحافظات المختلفة.

تمتلك سورية كافة المقومات لكي يكون لديها اقتصاداً زراعياً متطوراً، ولديها إرثاً تاريخياً من الصناعات الغذائية التي يمكن اعتبارها قاعدة يمكن البناء عليها، وهذه المقومات، حسب الدراسة، تتنوع من وجود أراضٍ واسعة تصلح لزراعة مختلف أنواع المحاصيل بتنوع قلّ نظيره في دول ذات مساحات مُشابهة، إلى جانب امتلاكها ثروة حيوانية لا بأس بها يُمكن في حال الاهتمام بها أن تُشكل قاعدة خلفية للكثير من الصناعات الغذائية كالألبان والأجبان، عدا عن الصناعات الصوفية والجلدية، وكم كبير من الصناعات التي ستوفر العمل وأسباب الدخل والمعيشة لعدد كبير من السوريين.

لكن، وصف الخبير عبد الحميد بأن العملية الإنتاجية لهذه المشاريع تحتاج لعدد كبير من الكفاءات الخبيرة في العمل، ورغم قدرة هذه المشاريع النهوض بسرعة بعد أي أزمة، إلا أنها تحتاج لمن يقف معها ويسهل بعض أمورها، والوقوف معها ليس بالعمل فقط، وإنما بالتمويل، فنجد أن التمويل المحلي صعب، إن لم يكن مستحيل، فرغم أن بعض المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر تبدأ بأموال محلية، إلا أن التمويل الأجنبي من المنظمات أو الوزارات الخارجية، أو حتى المنظمات السورية الممولة خارجياً، يصبح عبء على أصحاب هذه المشاريع، وذلك حسب وصف عبد الحميد، لأن الغالبية العظمى من هذه المشاريع تقع ضمن سيطرة الحكومة الحالية في دمشق، أو سيطرة جهات عسكرية مسلحة أخرى، لا أحد يستطيع السيطرة أو التحكم بها.

ورغم كل تلك المشكلات، إلا أن الباحث مهند دلال أضاء في دراسته على موضوع تدني الإنتاجية في هذه المنشآت والمشاريع، وأرجع هذه المشكلة إلى تدني مستوى الكفاءات العلمية العاملة في مختلف منشآت ومشاريع القطاع الخاص، إذ أظهرت الأرقام أن أكثر من 74% من العاملين في مجمل المشاريع هم من حملة الإبتدائية وما دون، بينما لا يُشكل حملة الشهادات الجامعية أكثر من 4% من مجموع العاملين، (نحو 150 ألف عامل فقط)، والباقي يتوزعون ما بين حملة إعدادية 13%, ثانوية 7%, و 2% حملة شهادات معاهد متوسطة، ولم تمنع تلك العقبات من استمرارية وبناء المزيد من هذه المشاريع، حسب المحلل العمر، إذ يعتقد أن الحرفية المهنية التي يتمتع بها أصحاب هذه المشاريع، تغني في الكثير من الأحيان عن التعليم الأكاديمي، فنلاحظ أن الكثير من الدول كالهند وإيران وغيرها من الدول الواقعة ضمن أزمات مجتمعية متتالية، لا تتأثر بها المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر، وذلك لمرونتها وتطورها المستمر، وتغيير خط إنتاجها بالسرعة التي تحتاجها الأزمة أو الواقع الذي يعيشه صاحب المشروع.

فيما يرى عبد الحميد أن أهمية هذه المشاريع بعد كل ما قيل عنها، أنها اللبنة الأولى في إعادة إعمار المناطق المدمرة، فالكثير من الشركات الكبيرة ستدخل للمناطق لإعادة إعمارها، والكثير من المصانع ستنتج مواد بناء وغيرها، لكن هذه المشاريع سيكون لها السبق في بناء الإنسان في هذه المناطق، ومن خلاله يعاد إعمار المدمر فيها.

 

التعليقات متوقفه