الكتلة التاريخية والهوية الوطنية الجامعة – أحمد مظهر سعدو

في أوقات الحروب وفي سياق حالات التغيّر المجتمعي المتحركة بسرعة، تكون الهوية بحد ذاتها عُرضة للضياع، ولعدم القدرة على مواصلة الوجود، فالانتقال البنيوي للمجتمعات، وماهية الحركة والانسحاب السريع، وإعادة رسم بنية جديدة للمجتمع، كل ذلك يأخذ بعداً هشّاً وقابلًا (في كل آن) لحالة جديدة ومتجدّدة، من التكوّن وإعادة الاتساق المنطقي، في مرحلة تتسم بالمفاجئات والتعميمات المنافية للماهية العلمية للناس وتجمعها، مما يترك الأثر المباشر على جموع البشر، واللحمة الوطنية في مجملها.
الهوية عادةً هي التي تعرِّف الإنسان بنفسه، وتعينه على وضع نفسه أو تَوضُّعِها في المنعرج الأصح، بدلالة عالم القيم، الذي خرج منه، أو ينتمي إلى منابعه، ولعل مسألة الحماية للذات المجتمعية، والتكور حولها ومعها يندرج في سياقات الهوية، وما يدور حولها أو ما ينبثق عنها.
في الوطن السوري (هذه الأيام) تبرز مسألة الهوية الوطنية الجامعة ودلالاتها وأهميتها، وضرورة الانتباه إلى الحفاظ عليها أو إعادة رسمها، بما يناسب التغيرات المجتمعية التي لا تتعارض مع كينونتها، ولا تتنافر مع القيم الأساسية التي قامت على هديها عبر سنين طويلة، متكئة على الوطن الجامع الموحد أولاً، والبعد القيمي المتلاقي مع العديد من المعطيات الجامعة، وغير المفرطة، التي يكون أساسها الفرد السوري المندرج في أتون الجماعة، حيث لا فكاك بينهما، خدمة لمستقبل الوطن السوري، والانتماء إليه وليس لأية انتماءات أخرى ما قبل وطنية، أو ما قبل إنسانية.
الهوية الوطنية ليست مجرد تسميات، وليست مجرد غطاء، بل روح تشكل أساس الانتماء، تجمّع، توحّد، لا تفرّق ولا تبعثر، بل ولا تسمح لكل الظروف الخارجية أو الداخلية، الإثنية، وغير الإثنية، أن تمارس فعلها التفتيتي المتحرك أثناء الحروب، وفي لحظات التدخل الخارجي، أو العودة إلى بعض ما هو متشدد أو متعصب وشوفيني.
في الحالة السورية تكون الخشية دائماً، وعبر فناء جيل أو أجيال، من أن تكون دوامة الحدث الدموي والقاسي تعطي الفرصة لإبراز هويات أخرى، لا تتلاقى مع الهوية الوطنية الجامعة.
يعتقد البعض أن ” الواقعين تحت حصار قوى مهيمنة أخذت هويتهم بعيداً عن جوهرها وأفسدت قيمهم، وأدرجتهم في نظام معين هم يبحثون لأنفسهم عن سبيل للخلاص من (ضغط الهوية) الذي حُوصروا فيه “.
لكن يبقى السؤال هل يسمح الشعب السوري (في ظروفه القاهرة) أن يكون ضمن هذا المتحرك المجتمعي، وبالتالي هل يمكن أن يكون سبيل الخلاص بعيداً عن العقل المجتمعي الجامع الموحد، وهل يمكن ترك كل العوامل الخارجية أو الداخلية لتفعل فعلها سلباً في الآن السوري، وهل يمكننا الوقوف مكتوفي الأيدي دون إمكانية اتخاذ موقف حازم حيال (فيروس) تحريف الهوية أو إفراغ الهوية من محتواها، وبالتالي هل من إمكانية لهوية وطنية غير جامعة؟
هنا يبرز أمامنا مسار الكتلة التاريخية الجامعة التي اشتُغل عليها مجتمعياً في إيطاليا (أنطونيو غرامشي) في لحظات زمنية معينة، كانت أقرب للحالة السورية التي نعيش، ومتساوقة مع منعطفاتها.
الكتلة التاريخية التي طرحها (غرامشي) تكون الحامية للهوية، والحل الذي يوقف استمرار الانهيار المجتمعي والوطني المتسارع، في بعد إجرائي سريع، يمسك بلباب المجتمع وأنساقه، ويمنع مسألة الانهيار بل ويلجمها.
يرى غرامشي أنه “لا يمكننا أن نغفل دور العقل في تشكيل الوحدة، على ضوء إدراك أن القوة تتجسّد في الوحدة، وخلق نظام هرموني يسع الجميع ولا يستثني أحدًا.

إن اتحاد هذه المتناقضات يؤدي إلى الحركة والتطور الذي يساهم فيه المثقف بشكل كبير “وهذا المثقف هو ما يسميه (غرامشي) بالمثقف العضوي، حيث يؤكد أن “فعل كل شخص يرتبط بثقافته، وهذه الثقافة هي بيئته، التي تعني أن كل الناس يفكرون بنفس الطريقة في تلك البيئة”.

ويبدو أن المثقف العضوي لديه هو من يلعب دور ذاك المحرك الأهم والرئيسي للكتلة التاريخية، وهو من يكشف، في بعض الأحيان، عن عجز هذه الكتلة أو الإعلان عن تقهقرها وبالتالي ضرورة المناداة بكتلة جديدة تحل محلها، عبر بناء جديد لها.
وهذا يضع مسألة الكتلة التاريخية في مضمار وإمكانية التغير المستمر، في حال ضرورة التجديد، أو الانتقال بذاته.
في لحظات التغير المجتمعي والوصول إلى كتلة تاريخية جامعة، تكون مسألة الحرية أكثر ما تكون بعيداً عن الانغلاق أو التعصب أو التقوقع على الذات ورفض الانفتاح على الآخر، بل لابد لها من وعي كل المتناقضات ومن ثم احتضانها، وهي أبعد ما يكون عن فكرة الحزب الواحد أو القائد أو الفكر الشمولي.
نحن اليوم أحوج ما نكون إلى امتلاك هوية وطنية جامعة، وكتلة تاريخية، تكون حاملاً لها، كي تستطيع التصدي إلى عملية إعادة تشكيل التاريخ على متغيرات جديدة، ترفض القطيعة مع البنى الأساسية للهوية الوطنية السورية الجامعة، التي اتكأت من خلالها ثورة الشعب السوري على الحرية والكرامة. وهي التي تنفتح على تاريخ جديد، يمكننا من ضمان حياة أفضل وغدٍ أكثر إشراقاً وعموماً، “إذا كانت السياسة هي تدبير الاستعجال، فان الفعل السياسي هو إضفاء الفعالية في معالجة المستعجل”.

التعليقات متوقفه