معتقلات سوريا من سجون النظام إلى قيود المجتمع – سونيا العلي

الغربال – ظنّت إلهام أن معاناتها ستنتهي بمجرد خروجها من السجن، وخلاصها من نقمة السجّانين، لكنّ نظرة المجتمع لها وأسئلة الناس عمّا لاقته داخل السجن، لا يقلّان عذاباً عن ذلك الألم الذي تعرّضت له في المعتقل، حيث يوجّهون إليها أصابع الاتهام متناسين آلامها النفسية والجسدية.
عمد النظام السوري إلى اعتقال النساء، إما لكون المرأة ناشطة سياسية أو للضغط على أهلها وذويها المنضمين للحراك الثوري، لما يمثله اعتقالها من مساس بقيم الشرف في مجتمع محافظ، ولما يلحقه بالضحية وأسرتها من أسى لا يمحوه الزمن، حيث تعاني المعتقلات السابقات من تبعات نفسية واجتماعية سلبية تلاحقهن بعد خروجهن من السجن، فتتلقى معاملة سيئة تشوبها اتهامات ونظرة دونية تجعلها توصم بالعار حتى لو كانت ضحية، وقد تكون المعاملة السيئة من أقرب الناس إليها، فيتبرؤون منها أمام المجتمع، لتصبح بذلك معاناة من يختبرن تجارب السجون مضاعفة.
المعتقلات بين لوم الأهل ونبذ المجتمع
كما تلام المرأة على جرأتها، وينظر إليها على أنها مذنبة رغم كل العذاب والضغوط اللذين تعرضت لهما، لتجد نفسها أمام معاناة جديدة يفاقمها المجتمع الذي ضحّت من أجله، عوضاً عن أن يكرس جهده لاحتضانها وإعادة الثقة إليها، فـ”إلهام” ومثيلاتها والكثير من المعتقلات اللواتي قُدرت لهنّ النجاة وكتبت لهن حياة جديدة بمجرد خروجهن من بين القضبان، وجدن أنفسهن مُلامات من قبل المجتمع، بسبب العادات والتقاليد التي تحكم هذه المجتمعات، لاسيما أنه لا يخفى على أحد أن معظم المعتقلات يتعرضن للاغتصاب ولانتهاكات جسدية من قبل القائمين على الفروع الأمنية، بهدف ترهيب الحراك الشعبي وقمعه، وإشباع رغبات عناصر النظام الدنيئة ليحافظ بذلك على ولائهم وبقائهم في صفوفه.
تتحدث إلهام عن تجربتها لـ”الغربال” قائلة: “ضاع مستقبلي وأحلامي باعتقالي على أحد الحواجز الأسدية المنتشرة على الطريق أثناء عودتي من جامعة حلب إلى إدلب، بتهمة الخروج بالمظاهرات المناهضة للنظام، بقيت في المعتقل لمدة شهر ونصف، وبعد خروجي اضطررت لترك الجامعة خوفاً من اعتقالي مرة ثانية، لم أعد أحتمل نظرات أسرتي واتهامهم لي، لأنني كنت مصرّة على متابعة دراستي في اختصاص الحقوق، لأبدأ بنصرة المظلوم، ولكن بعد خروجي تفاجأت من نظرات الجميع لي على أنني امرأة ناقصة، فقدت أعز ما تملك في ظل القيم المحافظة ومفاهيم الشرف التي لم تعد تميّز بين الجلاد والضحية، لذلك لم أجد مأوىً إلا العزلة والانطواء وانتظار القدر المحتوم”.
خسارة العمل ومصدر الرزق
تخسر المعتقلة عملها بحجة التغيّب غير المبرّر، فتواجهها صعوبة إيجاد عمل جديد في ظل ندرة الأعمال وتفشي البطالة، تجربة مشابهة عاشتها “فاطمة” من معرة النعمان (25عاماً) التي لم تتردّد في محاولة الانتحار إثر خروجها من السجن منتصف عام 2015، وعن أسباب ذلك تقول لـ”الغربال”: “خرجت مكسورة الخاطر، وقبل أن أنسى الخوف والضرب والوحدة وما لقيته من عذاب داخل السجن، بدأت أشعر بالغربة والعزلة، لم أعد أحتمل همسات الناس وغمزاتهم، لقد جلدوني بنظراتهم التي تحمل شتى أنواع العذاب، رأيت فيها الشفقة حيناً واللوم والاستغلال في كثير من الأحيان، وأكثر ما آلمني خسارتي لعملي ووظيفتي التي كنت أعيل منها أسرتي الفقيرة، وضياع دراسة وتعب سنوات أدراج الرياح، كوني مهندسة كهرباء، وكنت أعمل موظفة في شركة الكهرباء سابقاً، لذا أُصبت بحالة اكتئاب”.
وتتابع قائلة: “زاد حزني عندما ضغط عليّ أهلي لأقبل بالزواج من رجل متزوج ويكبرني بعشرين عاماً بحجة أنه قَبِل أن يستر عليّ بعد أن تلطخت سمعتي في السجون، فانتهى بي الأمر إلى محاولة الانتحار عدّة مرات، وها أنا أعيش اليوم على هامش الحياة تلاحقني لعنة الأمراض النفسية والجميع يبتعد عني ويتهرب من لقائي، لكن الكنز الحقيقي هنّ صديقاتي داخل المعتقل، اللواتي لا أنساهن ما حييت، فقد تقاسمنا معاً كسرة الخبز كما تقاسمنا الألم والأمل”.
الطلاق أو الإقصاء هما المصير
يلجأ بعض الأهالي إلى إبعاد المعتقلات عن المحيط القريب إلى خارج البلاد، بسبب الخوف من اعتقالهنّ مرة ثانية، ورغبة في إبعادهنّ عن محيط الأسرة، ما يعرض الفتاة لنوع جديد من انتهاك حقوقها، عائدة من ريف إدلب (29 عاماً) استطاعت أن تنهض من جديد وتتسلح بالأمل رغم ما مرّت به من مصاعب، بعد أن خرجت من سجنها، وجدت نفسها قد خسرت كل شيء، وقرّر أهلها إرسالها لتعيش في بيت عمها بتركيا، فطلّقها زوجها وأخذ طفلها الوحيد من أحضانها بسبب ضغط أسرته، وآلمها جداً ما سمعته بأنه لا يريد أن يشير الناس إلى أولاده، أنهم أبناء سجينة سابقة.
تتحدث عائدة لـ”الغربال” قائلة: “تمّ اعتقالي وأنا ذاهبة إلى حماة لأقبض راتبي الشهري، وكانت تهمتي هي العمل مع المنظمات الإغاثية، ورغبة من النظام بالضغط على أخي القيادي في إحدى الفصائل الثورية ليسلم نفسه، تمّ الإفراج عني بعد سنة، ذقت خلالها الضرب والعذاب والإهانة، واحتملت مشقة الاعتقال الذي لا يمكن لأعتى الرجال أن يحتمل المكوث فيه، بسبب الوحشية التي يتعامل بها عناصر الأمن مع المعتقلات، وبعد خروجي لم أستطع الصبر على ظلم المجتمع المحيط، وكان قرار الطلاق من زوجي وإقصائي من قبل أسرتي إلى تركيا أشد من عذابي وأنيني داخل زنزانتي الرطبة المظلمة، وأقسى من عصيّ السجّان”.
تضيف عائدة: “لم أستسلم للواقع المرير بل طالبت بولدي من خلال المحاكم الشرعية وظفرت به وسافرت برفقته إلى تركيا، حيث وجدت عملاً في مصنع للملابس، وبدأت حياة جديدة وأصبح هدفي الأسمى في هذه الحياة هو أن أربّي ولدي تربية صالحة”.
لعنة الأمراض النفسية
تقول المرشدة النفسية مها الحسين من مدينة إدلب لـ”الغربال” إنّ المعتقلات يتعرّضن لظلم كبير بعد خروجهن من السجون، وتعيش معظمهنّ حالة من التشتت والضياع لانعدام الخيارات المستقبلية أمامهنّ، فتصاب الكثير منهنّ بحالات الاكتئاب المرضي وكثيراً ما يعانين من المزاجية وردود الفعل غير المتوازنة مع المحيط الذي يعشنَ فيه من أفراد العائلة والأصدقاء”.
وتضيف “يجب طمأنة المعتقلة وتركها تتحدث بحرية عن همومها ومعاناتها دون الضغط عليها، وتأمين مسكن تشعر فيه بالحب والاحترام والأمان، كما يجب إجراء حملات توعية لرفع مستوى الوعي لدى المجتمع لإعادة دمج المرأة المعتقلة فيه، والنظر إليها نظرة إنسانية تليق بها كامرأة لها دورها في المجتمع، وذلك من خلال إنشاء مراكز للدعم النفسي وتأمين فرص عمل لها، وتكريمها مادياً ومعنوياً لأنها محرك الثورة ومدعاة فخر، فهي من شاركت في الثورة جنباً إلى جنب مع الرجل، واشتركت معه في مواجهة الموت والرصاص بصدرها وقلبها”.

التعليقات متوقفه