القصة الكاملة لـ”قاشوش حماة” الذي أراد النظام والمعارضة موته لكنه مازال حياً

تحتاج كل حركة احتجاجية لمنشد، وفي ربيع عام 2011 جاء دور شاعر الشارع الشجاع من حماة ليكون منشد الثورة السورية، حيث كانت ثورة الشباب السوري تُعرض على الشاشات كتسجيل بدون موسيقا تصويرية، فبينما اندفع السكان المحليون إلى الرقص العربي المعروف باسم “الدبكة”، كان من عُرف باسم “قاشوش حماة” مَنْ يكتب أغانيها، ومن هنا، انهار حاجز الخوف، حيث كانت أولى أغانيه: “يا محلاها الحرية”.

عندما حصدت الثورة السورية زخماً واحتشدت المظاهرات الليلية في ساحة العاصي وسط مدينة حماة، زاد حماسه. كان شعار “يا الله ارحل يا بشار” مستوحى من فساد ووحشية النظام السوري وتاريخه الدموي في حماة، كانت لكلماته اللاذعة التي شملت إطلاق وصف الحمار على بشار الأسد ونعت شقيقه ماهر بالجبان أثر كبير في البلد الذي كانت فيه السياسة ممنوعة لعقود، ومع ذلك كانت أناشيده أيضاً مضحكة ولطيفة كما الأناشيد المدرسية.

في مطلع شهر تموز عام 2011 تم نقل خبر وفاة الشاعر والمغني وخبر رميه في نهر العاصي على جميع وسائل الإعلام الدولية، التي نقلت سابقاً صوته ومعه صوت الثوار السوريين إلى العالم؛ حيث لاقى مقطع فيديو يظهر فيه شخص يدعى “إبراهيم قاشوش” مذبوحاً من رقبته على موقع يوتيوب رواجاً كبيراً، وأقترن بموجة دعائية على وسائل الإعلام مفادها أنه لا حدود لقسوة نظام البعث في سوريا.

قالت وكالة أسوشيتد برس وقتها أن القاشوش كان رجل إطفاء يبلغ من العمر 42 عاماً وأبٌ لثلاثة أولاد وأثناء عودته مشياً من العمل صباح أحد الأيام، توقفت سيارة بيضاء بجانبه، وببساطة تم وضعه في سيارة ومن ثم قتله ورمي جثته في نهر العاصي، لقد أصبح قتل القاشوش “نقطة استجماع قوة للمتظاهرين” في حماة، فقد حضر جنازته الآلاف.

عندما وصلت القصة إلى جميع أنحاء العالم، بدأت التعازي، حيث شرع عازف البيانو السوري الأميركي مالك جندلي بكتابة عمل أوركسترا قوي باسم “سمفونية حرية القاشوش”. وعرض معرض فني في أمستردام صورة بالحبر للمغني الميت مع بعض من أغانيه. وفي مقابلة مع الأسد على تلفزيون “آي بي سي” الأميركي في تشرين الثاني عام 2011، واجهته باربرا والترز بقصة “المغني المذبوح”، مما جعل الأسد يصمت للحظات.

كان هناك شيء غريب في القصة، حيث كانت التقارير متضاربة بشأن من كان “القاشوش” ومن قتله وحتى كم كان عمره عندما مات، والحقيقة أنه لم يتمكن أحد من التحدث مع عائلته، مع مرور الوقت، انتشرت الشائعات بين معارضين سوريين في المنفى بشكل كبير، حيث أكد لي أحدهم على الغداء في عام 2014 “إنه على قيد الحياة، ويعيش هنا في إسطنبول”، وأكد سوري آخر على أنه كان يعمل بستانياً، وقال لي آخر أنه غادر إلى قطر، وقال آخر أنه غادر لأوروبا.

كان أحد نشطاء حقوق الإنسان السوريين أكثر تحديداً وأقل سخطاً، حيث أصرّ بأن من قُتل لم يكن المغني “القاشوش” على الإطلاق، ولقد كان المغني رجل آخر يُدعى عبد الرحمن فرهود، مبررا انتشار رواية مقتل المغني بالقول “كان البعض في المعارضة يروجون الأكاذيب لأنهم اعتقدوا أن ذلك سيكون مفيداً”.

وأخيراً، في شهر كانون الثاني من هذا العام، أجريت اتصالاً مع جهة اتصال على السكايب وسمعت شاب سوري يتكلم الإنكليزية بركاكة. سألته: هل أنت القاشوش؟ أجاب: “نعم، نعم، يا صديقي”، مرفقا إجابته بضحكة لطيفة.

كانت المظاهرات قد بدأت بأعداد صغيرة في حماة بشهر آذار 2011، حين عاد عبد الرحمن فرهود، الذي كان يدرس الاقتصاد في الجامعة في مكان آخر في سوريا ويعمل في البناء لدفع الفواتير، للانضمام إلى المتظاهرين في مدينته.

كان يوم الجمعة 10 حزيران 2011، حين وصل المتظاهرون إلى ساحة العاصي، وغنى عبد الرحمن فرهود (الذي كان يعرف باسم رحماني) لأول مرة في ساحة العاصي، حيث اشترى المتظاهرون نظام صوت قبل يومين، وكان الناس يشعرون بالملل من تكرار نفس الشعارات السياسية. قال فرهود لي: “كانوا يبحثون عن زعيم، كان الجميع خائفاً، ونحن بحاجة لشخص يستطيع الغناء”.

وهنا قرر فرهود أن يمضي في الأمر، ولما لقاه من تجاوب، كتب المزيد من الأغاني المحفزة؛ في محاولة منه لإخراج الناس إلى المظاهرات الليلية. وتم بث أغنية “يا الله ارحل يا بشار” لثلاثة جمع. في 1 تموز، بعد مهاجمة وقتل بعض المتظاهرين قبل عدة أسابيع، لم تعد قوات الأمن تراقب الناس عن كثب، لذلك غنت أعداد هائلة من الناس وكثير منهم من النساء والأطفال بشغف تلك الأغنية.

بعد بضعة أيام سمع عبد الرحمن فرهود خبر وفاته، يقول معلقاً “لقد سمعت اسمي على شاشة التلفزيون، واسم آخر، وكنت خائفاً جداً”، أخبره أصدقاءه أن يقول شيئاً، لكن يبدو أن التعامل مع مثل هذه الآلة الدعائية القوية مهمةً شاقةً، لذلك التزم الصمت، نشر الخبر على مئات المحطات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية، يقول فرهود “كنت أستمع لكل هذه القنوات ولم أرغب في مقابلة أي صحفي، لن يجدي الأمر نفعاً، وأعتقد بأن نفي الخبر سيسبب لي مشاكل مع الثوار”.

مؤيدي النظام كانوا يشاهدون كل هذا أيضاً، وهم سعداء بأن المغني الذي كان يهين رئيسهم قد قتل، في الحقيقة الطرفين أرادا له الموت، وكان من الأفضل أن يترك الأمر عند هذا الحد. لم يغني عبد الرحمن فرهود منذ ذلك الحين أمام الناس، يقول “أنا لست مغنياً، لم أغني أبداً في حياتي قبل الثورة، كنت أغني للشارع، وليس للأستوديو”.

إذن من هو إبراهيم القاشوش الذي شاهده العالم مذبوحاً؟ قال لي عبد الرحمن فرهود “الشخص الذي قتل غير معروف على الإطلاق، لم يفعل شيء، لا أحد يعرف قصته أو لماذا قتلوه”.

ناشط محلي في مجال توثيق الانتهاكات قال إن “إبراهيم القاشوش كان حارس أمن محلي وقتله الثوار لأنهم ظنوا بأنه كان مخبراً للنظام”. من الممكن، أن يكون الأمر كذلك، حيث أدارت أجهزة الأمن السورية شبكة غير رسمية واسعة من المخبرين، وعند اندلاع الثورة، بدأ بعض الثوار الانتقام بهدوء.

كانت الطريقة الوحيدة لمعرفة المزيد هي الذهاب إلى حماة. في نهاية شهر آذار الماضي، حصلت على تأشيرة صحفي وتوجهت إلى سوريا، عندما وصلت كان يلزمني إذن رسمي ومرافقة مترجم من الحكومة لأي رحلة خارج دمشق، وذلك يحد من التقارير المستقلة بشكل كبير.

مدينة حماة هي مدينة محمية بطوق أمني كثيف وهي آمنة بشكل تام، ولكن الكثير من المناطق الريفية المحيطة بها في يد تنظيم داعش وجبهة النصرة. في المرحلة النهائية من الرحلة وعند اقترابنا من حماة، ضغط السائق بشدة على دواسة البنزين، وفي كل مرة كنا نصل لمطب؛ كانت رؤوسنا ترتطم بسقف السيارة.

وعندما طفنا في المدينة، درنا حول ساحة العاصي حيث هزت أغاني الثوار في المظاهرات الضخمة النظام السوري منذ خمس سنوات مضت، كان ذلك في طريقنا إلى مبنى البلدية.

لم أذكر للحكومة السورية الأسباب التي دفعتني لزيارة حماة، غالباً يشك أنصار النظام في دوافع الصحفيين الغربيين، وأنا لا أريد أن أعطي الوقت لأي شخص ليملي عليّ الدعاية الخاصة به.

بعد بضع دقائق من شرب الشاي في مكتب ممتلئ بالعاملين في مجال الإعلام، طرحت السؤال التالي: “هل من أحد يعرف شيئاً عن هذا الرجل؟ القاشوش؟” على الفور، أجاب رجل بمظهر رزين وأنف منتفخ قائلاً: كان والد إبراهيم القاشوش وأخته أقارب لي، وأوضح أنه سيكون سعيداً في ترتيب مقابلة معه. لكن المحادثة الهاتفية التي أجراها الرجل مع والد القاشوش لم تجرِ على ما يرام. فبعد إلحاح طويل باللغة العربية، رفض والد القاشوش الحديث معي.

عوضاً عن ذلك وعدني الرجل الذي يدعي أنه أحد أقربائه، والذي عرف عن نفسه باسم أبو زاهر بأن “يقول لي كل شيء”، بينما كنا ننزل برفقة إعلامي من إدارة المدينة إلى مقهى قريب.

كان أحد أيام الربيع، لقد أطلت طاولة العشاء في الهواء الطلق على نهر العاصي، حيث يقال بأن جسد إبراهيم المشوه قد غرق هناك. في الخلفية بعض من عجلات الماء، أو النواعير، التي تشتهر بها حماة. وما أفسد وشوّه مشهد النهر الريفي هو وجود سيارة مغمورة لنصفها. وعند دعوة المؤذن للصلاة، وبحضور ضابط مسؤول عن وسائل الإعلام من الحكومة السورية، قمت بإظهار صور موجودة في هاتفي “أي فون” للقاشوش، وعرفهم الضابط على الفور.

حيث قال: كان إبراهيم في منتصف العشرينات، وعندما غادر للعمل ذات صباح، لم يرجع إلى البيت حيث تم العثور عليه ميتاً في المدينة في منطقة تسمى دوار البحرة، ووفقاً لأبو زاهر، لم يكن القاشوش رجل إطفاء ولكن حارس أمن في محطة محروقات؛ وأيضاً كان أمياً، وبالتأكيد لم يكن شاعراً أو منشداً. حيث قال “لم يغني إبراهيم أبداً، ولم يعرف الكتابة أو القراءة، ولديه إعاقة في اليد منذ ولادته، كيف يمكن للناس أن يصدقوا ذلك؟”.

لم يعرب أبو زاهر عن إعجابه بالنظرية القائلة بأن إبراهيم يمكن أن يكون مخبراً للنظام السوري، ولكن كان الرجل الذي قتله بطريقة وحشية يعمل مع جماعات المعارضة المسلحة وكان قد هرب بعد أسبوعين إلى تركيا. وزاد كل هذا الاهتمام لوسائل الإعلام الأجنبية بالواقعة من حزن عائلة القاشوش.

ووفقاً لأبو زاهر، هددت جماعات مجهولة الهوية من المعارضة أقاربه “بعدم الإفصاح عن حقيقة مقتله لأن تلك الجماعات ستتسبب بمشاكل لجميع أفراد الأسرة”. ونتيجة لذلك، هرب إخوة إبراهيم الثلاثة من حماة. وكانت والدته متوفية منذ فترة طويلة، أما والد إبراهيم فهو يعيش الآن وحيداً، يقول أبو زاهر “إنه مضطرب للغاية، وقد فقد عقله، الوضع سيء؛ حيث لا أحد من عائلته حوله”.

يعمل أبو زاهر كمصور لوكالة أخبار تسيطر عليها الحكومة السورية، وكان من الصعب أن يفشي أي شيء خطير عن الجيش السوري أو النظام، لكن بدت الخطوط الأساسية لقصته التي تمثلت بأن إبراهيم قُتِلَ إما نتيجة لنزاع خاص أو لأنه تشاجر مع بعض الثوار معقولة ومقنعة.

وعلاوة على ذلك، لو أراد أبو زاهر أن يروي أكذوبة دعائية موالية للنظام، بالتأكيد لكان قد ركز على المغني الحقيقي وليس الذي أكد بأنه لم يغني مطلقاً، ولكن لم يدعي أحد حول الطاولة أي معرفة بالمغني، ولم أذكر أنا اسم عبد الرحمن فرهود.

ذات أمسية بعد أسبوعين، في الطابق العاشر من إطلالة شاهقة في مدينة أوروبية، كنت أشاهد مرة أخرى أشرطة الفيديو الخاصة بتظاهرات حماة، هذه المرة كان مضيفي المغني الحقيقي عبد الرحمن فرهود، الذي كان وافق على لقائي به. كان المقطع الذي أراد مني مشاهدته هو عرض ضخم في ساحة العاصي في 1 تموز 2011، مع شعار “يا الله ارحل يا بشار”، الذي ظهر لأول مرة، وهيجت كلماته الساخرة حشود المتظاهرين.

قال عبد الرحمن فرهود “كان له (الشعار) تأثير قوي على الناس، وكنا نكتب التاريخ”. حيث ملأ المتظاهرون الساحة بأكملها، وخيم هدير صوتهم على ساحة العاصي. وصعد بعضهم إلى مبنى البلدية حيث كنت، وقد أسدلوا أعلام الثورة من شرفات البلدية. لكن لم تكن فقط ساحة العاصي التي امتلأت بالناس، حيث ملأ الناس المنطقة بأكملها. قال فرهود لي “انظر، يا صديقي، إلى الشوارع المحيطة بها، أعلم لم يكن هناك مليون شخص، ولكن أعتقد أنه لم يكن هناك أقل من 300 أو 400 ألف”.

كنا نجلس في شقة استوديو صغيرة لأحد أصدقائه السوريين، حيث يأتي فرهود لقضاء الوقت ريثما يتم إعداد طلبه للحصول على اللجوء السياسي. كان في الزاوية مكان ممتلئ بصحون غير مجلية، وعلى طاولة قرب النافذة يوجد آلة لف السجائر مع التبغ الذي يستخدمه هو وصديقه لتوفير المال. بعد خمس سنوات، أصبح عمر عبد الرحمن فرهود 28 عاماً. هو غير مرتاح عند الحديث عن قصته الخاصة، لكنه يحب الاستغراق في سرد أيام مجد الثورة السلمية في سوريا، جالساً على حافة السرير، ترك عينيه تهيمان بالنظر لشاشة هاتفه. وقال: “كانت الثورة على الطريق الصحيح، وكان كل شيء مثالياً”.

بعد بضعة أيام مات إبراهيم قاشوش، يتسبب ذكر هذه الحادثة بالتوتر لفرهود، حيث لم يكن لديه فكرة عما كان يعنيه موته أو من الذي كان وراءه.

في يوم 29 تموز/ يوليو، شن الجيش السوري، الذي كان متمركزاً خارج حماة لتجنب تأجيج الوضع، هجوماً كبيراً لاستعادة السيطرة على وسط المدينة. انتشرت الدبابات في الشوارع، وتفرق المتظاهرون. في نفس اليوم، قُتِلَ أحمد الأخ الأصغر لعبد الرحمن فرهود على يد قناص.

عرض الفرهود عليّ فيديو آخر على هاتفه لأخيه أحمد؛ وهو على نقالة وينزف دماً، ولكنه توفي بعد ذلك بوقت قصير، كانت قوات الأمن تبحث عن المغني؛ وربما منحه التشويش بشأن هويته القليل من الوقت، يقول فرهود “بدأوا يعتقلون الناس ويستجوبونهم، وسرعان ما توصلوا للحقيقة، كنت في مأمن حينها”.

كان فرهود قد وصل لبنان، كان مشتاقاً لحماة وللوطن، حيث غامر في كانون الأول عام 2011 بالرجوع إلى الوطن، وبقي في منطقة في حماة حيث كان الجيش السوري الحر موجوداً.

قام فرهود بتنظيم مظاهرات وغنى بعض الأناشيد الجديدة، وبقي هناك حتى صيف عام 2012 قبل أن يتوجه شمالاً نحو الأراضي التي يسيطر عليها الثوار. حيث عمل لفترة طويلة لحساب منظمة غير حكومية، في توزيع المواد الغذائية وغيرها من الإمدادات في المناطق التي يسيطر عليها الثوار في شمال سوريا.

وفي تشرين الثاني عام 2013، وقعت كارثة، فأثناء أعمال الإغاثة في مدينة سلقين في إدلب، تعرض فرهود وستة من أصدقائه لكمين على الطريق من 150 ملثماً، كانوا مقاتلين في تنظيم داعش معظمهم أجانب. وتبين أنهم يبحثون عن شخص آخر، ولكن كان الأمر مرعباً. وتم وضع شيء على عيون الناشطين السبعة وتم نقلهم إلى زنزانة في مبنى مجاور، ومن ثم تم إخراجهم واحداً تلو الآخر للتحقيق معهم بوحشية. وعندها لم يرغب فرهود الحديث عما حدث بعد ذلك.

لقد كان يومه الأخير في سوريا. ومنذ ذلك الحين، عاش فرهود بهدوء في إسطنبول؛ يشتغل في مجال الاستيراد والتصدير كوكيل تجاري عند تاجر حديد وخردوات. في تشرين الأول عام 2015، نزح مع السوريين عبر الحدود من اليونان إلى مقدونيا، ساعياً إلى السلامة في أوروبا الغربية. يقول “لم يساعدني أحد”. ويشير إلى إنه “يود العودة إلى الديار ولكنه يعلم أن ذلك لن يحدث في الوقت القريب”، لا يزال عبد الرحمن فرهود عدواً عنيداً للنظام السوري، ويعتبر أن القوة التي أخمدت المظاهرات الأولية مسؤولةً عن كل ما حدث لاحقاً. وقال لي “الثورة في دمي”، ففي هجوم في وقت سابق من قبل الجيش على المدينة في عام 1982، لسحق تمرد الإخوان المسلمين، تم قتل جده بالرصاص أمام والدته. يوضح فرهود “لم يكن متورطاً في شيء، كان ذنبه مجرد البقاء في منزله”. وتم قتل عمه أيضاً وآخرين من عائلته. في ذلك الوقت كان عدد سكان المدينة حوالي 300000 فقط، ويقدر فرهود أن 40000 قد لقوا حتفهم. يقول “كل منزل أو أسرة في حماة فقدت شخصاً”.

تربى فرهود على أهوال حماة في عام 1982، كان الوقت بعد منتصف الليل، وكنا نجلس في الشقة. كنت وصديقه السوري نشرب النبيذ الأحمر، بينما كان فرهود الذي لا يزال يصلي بانتظام يشرب شراب خالي من الكحول.

سألته عن دور وسائل الإعلام الجديدة ومواقع التواصل في الثورة السورية، أجاب بمثال على ذلك: “عندما كان الأسد الأب (والد بشار) يفعل هذا (يقمع السوريين بالقتل والتنكيل)، لم يكن هناك أية وسائل الإعلام، ولم يعلم أحد بالأمر، ظننا أنه إذا عرف الناس بذلك عبر وسائل الإعلام الجديدة سيتغير الحال، لكننا فوجئنا أنه حتى عندما علم العالم بحقيقة ما يجري لم يفعل أحد شيئاً، في عام 1982، لم يكن هناك وسائل إعلام، لذلك لم يرى أحد الجرائم، إنهم يرون الآن الجرائم، ولكن النتيجة واحدة”.

لم يوجه فرهود لومه لوسائل الإعلام الجديدة؛ وإنما لام الحكومات الأجنبية، بعد كل شيء، لدى النظام السوري وسائل الإعلام والدعاية الخاصة به، التي أجبرت الثوار الشباب على تكذيبها، يقول فرهود “كانوا يقولون للعالم كله أنهم يحاربون إرهابيين، ويصدقهم العالم كله”. ويقول إنه يشعر الآن أن “المشكلة هي أن وسائل إعلام الثورة ضعيفة وتابعة لقنوات أجنبية قوية تنتقي وتختار ما تعرضه وفقاً لأجنداتها الخاصة”، يؤكد فرهود “لا أؤمن في وسائل الإعلام؛ فهي ليست فعالة”.

حيث سمع فرهود أن إبراهيم قاشوش كان “شخصاً بسيطاً ومعاقاً” (قلد نفس حركات يد القاشوش التي قلدها أبو زاهر) وكان يعمل في محطة محروقات. وكان فرهود يعرف كل الناس “الذين كانوا يعملون في الثورة” في حماة، لذلك كان يعلم أيضاً أن القاشوش لم يكن من ضمنهم. وكان الجميع يعرفون أنه كان المغني وأنه ما يزال على قيد الحياة. فكيف انتشرت قصة كاذبة في جميع أنحاء سوريا والعالم؟ وقال فرهود لي بغضب عارم: “لا أعرف من نشر الشائعات، أتمنى أن أتمكن من العثور عليه”. ولكنه كان شخص من لجان التنسيق المحلية وهي الجناح الإعلامي للمعارضة الذي يتلق الدعم من الولايات المتحدة والحكومات الغربية الأخرى هو من نقل الخبر عبر مقالات صحفية لدعم القصة.

كان الصراع السوري أول حرب حقيقية على اليوتيوب، حيث يأتي الكثير مما نراه عن طريق عدسات الهاتف الذكي، في وقت مبكر من الانتفاضة، وضع بعض الناشطين في سوريا ثقتهم في موقع يوتيوب لإيصال رسالتهم. تم تشجيعهم على القيام بذلك من قبل الحكومات الأجنبية والمنظمات غير الحكومية. كما تم الترويج للـ “النشاط الإعلامي” في العواصم الغربية المتقدمة، وتمت دعوة عشرات من الشباب السوريين إلى تركيا وتم دفع الأجر لهم بما يعادل عشرة أضعاف الأجر الوطني السوري؛ لتأسيس وسائل إعلام جديدة مناهضة للنظام السوري. ولم ينفع كل هذا ثورتهم بشيء. وفي النهاية، عند المواجهة مع جبروت النظام السوري والإسلاميين المتمرسين بالحرب، اتضح أن ذلك الإعلام كان سلاحاً ضعيفاً للغاية.

كانت جريمة فرهود الوحيدة هي الإهمال، وقال لي: “ليست الثورة برنامجاً من أجل الشهرة، لقد عرف الناس في حماة من كان يغني، وعندما تنتهي الثورة يمكننا نشر كل هذه القصص”. وفي وقت لاحق، سافر فرهود إلى قطر، وعمل في “قناة الجزيرة الوثائقية” حول أغاني الثورة السورية. وعرف بعض الناس هناك من كان، لكنه لم يرغب في أن يروي قصته. حيث يقول: “أنا لست بحاجة إلى هذا”.

ومع ذلك، أجرى فرهود مقابلات في ذلك الوقت مع واحد من عدد قليل جداً من الصحفيين الأجانب في حماة. حيث ذكر الموضوع على الفور تقريباً في أول اتصال هاتفي لنا؛ لأنه يشتبه أنني قد أكون نفس الرجل. قال لي “أنا لا أتذكر، ربما من صحيفة نيويورك تايمز، واسمه؟ لست متأكداً”. لقد كان أنتوني شاديد، صحفي في نيويورك تايمز الذي مات بعد سبعة أشهر في نوبة ربو حادة أثناء تغطيته بمنطقة في سوريا يسيطر عليها الثوار، نشرت المقالة في صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 22 تموز 2011، وناقشت العديد من الشائعات المحيطة بإبراهيم القاشوش. قال شاديد في المقال “أصر آخرون أن الأغنية كانت مكتوبة فعلاً من قبل كهربائي وطالب يبلغ من العمر 23 عاماً، واسمه عبد الرحمن، ومعروف أيضاً باسم رحماني”. وعندما قابله شاديد، أوضح فرهود بصبر كيف ولماذا حدثت الأغاني وحول كيف تحاور هو وأحد إخوته بشأن كلمات الأغاني وألحانها.

وقال: “ماذا أقول، يشعر الجميع في قلوبهم، ولكن لا يمكنهم التعبير بالكلمات”. حتى أنه وافق على أن التقاط صورة له. وكتب شاديد “عند السؤال عما إذا كان خائفاً، أجاب رحماني من ماذا أخاف؟”

وكان فرهود قد خاطر بحياته من أجل الحديث مع أنتوني شاديد، الذي عاد بأول مسودة ممتازة عن الحقيقة، ولكن تم التخلص منها عبر سيل من دعاية وسائل الإعلام الجديدة.

يُعتبر التقدم بطلب للحصول على اللجوء السياسي لعبة انتظار، في النهار يأخذ فرهود دروس اللغة، وفي المساء يذهب إلى الملعب المجاور، ويلعب كرة القدم. وأحياناً يكتب الشعر، ولكنه لا يكتب شعر سياسي. وبين وقت الدروس واللعب، يتجول مع صديقه في شوارع المدينة، مرتدياً نظارات شمسية ويغني بصوت منخفض. في الثلاثة الأيام والليالي التي قضيتها معه، فعل ذلك باستمرار، معظم هذه الأغاني هي أغاني سورية وعراقية.

عندما جلسنا ثلاثتنا لمشاهدة مباراة في الدوري الإسباني لكرة القدم، غنى فرهود نشيد رِيال مدريد على مدار فترة المباراة؛ لمجرد إزعاج صديقه. لكنه بالرغم من كل طلباتنا، رفض أن ينشد أغاني الثورة. وهنا قال: “كان ذلك فقط من أجل الثورة، وفقط من أجل سوريا”.

ذات ليلة بينما كان يلعب كرة القدم، نادته امرأة شابة من فوق الجدار، ورافقها لتناول العشاء، وتركني في الشقة، ولكنه عاد خالي الوفاض. قال فرهود “كانت لطيفة جداً ولكنها صغيرة جداً”. ولكن هل قال لها من كان؟ من غير المحتمل. إنه يشعر بالذنب لبدء الثورة ومن ثم الهروب من سوريا، وأيضاً بعد وفاة إبراهيم قاشوش، وحتى لكونه على قيد الحياة. يعرف بعض المعارضين السوريين مَنْ يكون، ولكن في أماكن أخرى في سوريا يتشبث كثيرون بأسطورة القاشوش.

قال لي عبد الرحمن فرهود: “سأعطيك مثالاً لقد التقيت هذه الفتاة وقالت: “كنت مع نظام الأسد ولكن عندما سمعت بإبراهيم قاشوش؛ انضممت إلى الثورة”. لو أخبر الناس بأنني الذي عملت هذه الأغاني، سيصبح سببها في الانضمام إلى الثورة مزيفاً. تتحدث عن بطل ما، وقد مات ويحترمه الجميع، والآن ماذا تقول؟”.

في إحدى الليالي، بينما كنا نشاهد التلفزيون، راسله صديق سوري عبر “الواتس أب”، في الأيام الأخيرة كان هناك مظاهرة مؤيدة للثورة في مدينة معرة النعمان التي يسيطر عليها الثوار في شمال سوريا، أبلغه صديقه الرسالة: “سنغني بعدك يا قاشوش”. عض فرهود على أسنانه؛ كما يفعل عندما يكون قلقاً، وقلب الأمر في ذهنه من جديد فيما إذا كان الوقت المناسب ليروي قصته. قال لي “إبراهيم قاشوش اسم لبطل عند الشعب السوري. عندما أنشر هذه القصة سأنسف شهرته”، قلت معارضاً: لكن يعرف الكثير من السوريين بأنك ما زلت حياً، فأجابني “أنا لا أتحدث عن ذلك”.

أكد له صديقه السوري أنه لا يمكن لأحد أن يلومه على خروجه من حماة، كان بطلاً عندما كانت الثورة عبر السوريين العاديين، وكان شقيقه قد قُتِلَ على يد قوات الأمن السورية. كانت هذه نقطة جيدة. لفترة طويلة قبل أن تصبح حمص مركز الثورة العنيف، كانت حماة مهد الثورة السلمية إلى حد كبير. لكنه لم يكن مبالياً. وهنا قال لي: “أنت لا تعرف الشعب السوري، يا صديقي. ثق بي، الآن يقولون بأنه بطل، ولكن عندما يسمعون أنني على قيد الحياة، ماذا سيقولون؟”

من غير المرجح أن يلقوا باللوم عليه كونه على قيد الحياة. الشهادة أمر مبالغ فيه، ولقي مسبقاً الكثير من الشبان السوريين حتفهم؛ الثائر الحي بالتأكيد أفضل من الثائر الميت. في اليوم الذي كان من المقرر أن أغادر، سألت عما إذا كان أفضل في الكتابة أو الغناء، ولكنه تجاهل السؤال بتواضعه المعتاد. أجاب فرهود “أنت في حاجة إلى صوت عذب من أجل الغناء”، بينما كان صوته “قوياً جداً” وليس جيداً.

هل سيغني لنا الآن؟ رجوته بأن يغني منذ تحدثنا في بداية حديثنا، بصرف النظر عن أي شيء آخر، وفي غياب كثير من الأدلة الوثائقية، كنت بحاجة للتأكد من أنه كان هو الذي قال أنه كان. ولكنه أجاب: لا. لأنني لست مغنياً، صوتي ليس عذباً.

فقلت له: لكنك كنت عندليب الثورة، وفي حماة كنت بحاجة إلى صوت قوي ليسمعك الناس فأجاب: “أنا مستعد للغناء لكل ثورة”.

في نهاية المطاف، وقف على قدميه. وكان الوقت بعد ظهيرة يوم مشمس آخر، دافئ مثل جو حماة في فصل الربيع في وقت مبكر، وكانت نوافذ الشقة في الطابق العاشر مفتوحة على مصراعيها. صدح وارتعد بقوة: “”يا الله ارحل يا بشار” مدوياً عبر الفضاء كما لو أنه كان يخرجه من صميمه. بدأ في الوثب بطريقة خجولة، ومن ثم فجأة انطلق بالغناء. كان غناءه شبيه بغناء العندليب، وأشبه بزئير حيوان في قفص، وعنما أطلق تراتيل الأغنية، سمعها كل من كان موجود فوقنا وتحتنا أيضاً، وتساءلوا عما كان يجري. وعندها هتف صديقه: “إنه هو، هذا هو صوته”. ولقد نجحت في المهمة، لقد كان صوته.

 

 

 

*هذه التحقيق للصحفي البريطاني جيمس هاركين، مترجم عن عدد مجلة GQ (جي كيو) البريطانية لشهر كانون الأول/ديسمبر 2016

*ترجمة: محمود العبي

*تحرير فريق الغربال

 

التعليقات متوقفه