آثار كارثية لانتشار حقول الألغام بريف حلب ــ محمد نبهان

 

ما أن سمع محمد عروق (40 عام) بخبر تحرير بلدته تلالين، من تنظيم “داعش”، وهي الواقعة إلى الشمال من مارع بريف حلب الشمالي، حتى قرر العودة مع عائلته المكونة من ثلاثة أطفال وأمهم إلى منزله على أطراف البلدة، يقول محمد “كان منزلي تحويشة العمر، كنت أصرف كل المال المتوفر لدي في توسعته وتوفير مزيد من الخدمات فيه، إلى أن حرمت منه مع دخول التنظيم العام الماضي إلى البلدة وسيطرته عليها، وسمعت بعدها أن أحد أمراء التنظيم قد احتل منزلي وسكن به”.

ومع عودة محمد لمدخل بلدة تلالين طلب عناصر حاجز “الجيش الحر” منه أن يرشدهم لمكان منزله، فأشار أنه يقع في الجهة الشرقية من البلدة، فقال له العناصر إن هذه المنطقة ما يزال الاقتراب منها خطراً للغاية بسبب كثرة الألغام التي خلفها تنظيم داعش ورائه.

كانت الإجابة قاسية على محمد وعائلته، فهم لن يتمكنوا من العودة إلى بيتهم في القريب العاجل بظل وجود ألغام متفجرة تحيط بالمنزل، وربما في كل غرفة منه.

عاد محمد عروق وعائلته إلى المخيم الحدودي مجدداً، الواقع في الشمال الشرقي من مدينة إعزاز قرب الحدود السورية التركية، على أمل العودة القريبة إلى بلدة تلالين، للخلاص من المعاناة التي يعيشونها في الخيمة مع دخول فصل الشتاء وهطول الأمطار وتحول المخيمات إلى برك من الطين والأوحال وغرق الكثير من الخيام بماء الأمطار.

 

مخاطر كبيرة على السكان

تعتبر الألغام التي تركها تنظيم “داعش” خلفه من أكبر العوائق التي تحول دون عودة الألاف من المهجرين من منازلهم وقراهم، فحال محمد كحال كثيرين منعتهم فصائل الجيش الحر من دخول بيوتهم خوفاً من وجود ألغام متفجرة فيها، في ظل انعدام القدرات الفنية واللوجستية لإزالتها وتأمين المناطق المحررة حديثاً من قبضة التنظيم.

كما أن الألغام التي زرعتها الفصائل في محيط البلدات والقرى التي كانت تعتبر خطوط تماس مباشر مع التنظيم في ريف حلب الشمالي تزيد الطين بلة، وهي تشكل عائق مضاف إلى الحجم الكبير من الألغام التي زرعها داعش، حيث تعاني فصائل الجيش الحر من انعدام الخرائط التي توضح توزع الألغام التي زرعها مقاتلوها، فكثيراً ما كانت هذه الألغام سبباً في مقتل عدد من عناصر الفصائل، كما حصل مرارا في محيط مارع وحور وتل مالد إلى الجنوب من مارع.

وزرع تنظيم “داعش” شتى أنواع الألغام التي يصعب فكها وإزالتها، فمنها ما يسمى باللغم المسطرة حيث يزرع اللغم ويوصل له شريطان موصولان ببطارية، ويقف انفجار اللغم على مس الشريطان ببعضهما، حيث يوضع للشريطين من كل جانب وصلة حديدية وتوضع الوصلتان فوق بعضهما ويجعل بينهما فاصل، فبمجرد أن يداس على الوصلتين توصل الدارة وينفجر اللغم، وهنالك أيضاً لغم المسبحة وهنالك لغم الموجه وهنالك لغم الحساس عن بعد وهنالك أيضا لغم الخيط بالإضافة لأنواع كثيرة.

القائد العسكري في الجبهة الشامية، عبد الله بكور، وهو المسؤول عن القطاع الشمالي في مدينة مارع أكد لـ”الغربال ” أن “التنظيم زرع الاف الألغام في ريف حلب الشمالي وريف حلب الشرقي وأن الفرق الهندسية واجهت كم هائلاً من الألغام زرعها التنظيم والتي ذهب ضحية انفجارها عدد كبير من فرق الهندسة بسبب عدم توافر الآلات والكاسحات والأجهزة الحساسة المناسبة للقضاء عليها”.

وأوضح بكور أن “معاناة السكان من هذه الألغام شديدة، وخصوصا أنهم مقبلون على موسم جديد من الزراعة والحراثة وسوف يتفاجأ المدنيون بالكم الهائل من الألغام الذي زرعه التنظيم في الحقول الزراعية وسوف يكون هناك الكثير من الضحايا إن لم يتم إزالة هذه الخطر عن الأراضي الزراعية وعن المنطقة”.

وأشار بكور إلى أن “هذه الألغام لن تتلف مع مرور الزمان حيث يمكن أن تنفجر بأي لحظة، فهي لا تتأثر بالعوامل الجوية، وهذا ما لاحظناه في عدة مواقع كانت قد زرعت بالألغام من قبل التنظيم مطلع العام 2014 وانفجرت بعد عامين وتسبب انفجارها بوقوع إصابات”.

 

تعطيل القطاع الزراعي

يعتمد السكان في ريف حلب الشمالي والشمالي الشرقي في الأعم الأغلب على الزراعة، كأحد أهم النشاطات الاقتصادية التي تدر أرباحاً تعيل مئات الألاف من الناس، وتعرض هذا القطاع للتعطيل خلال العامين الماضيين بشكل شبه كامل، بسبب المعارك الدائرة بين المعارضة وقوات سوريا الديموقراطية من جهة، والمعارضة المسلحة وتنظيم داعش من جهة ثانية، وبقيت آلاف الهكتارات الصالحة للزراعة بوراً، ولم يتمكن أصحابها من زراعتها، لأسباب عدة أبرزها انتشار الألغام، وصعوبة الوصل إليها في ظل الاشتباكات والمعارك المستمرة وتغير خارطة السيطرة بشكل مستمر بين الأطراف المتصارعة.

وما أن تمكنت فصائل الجيش السوري الحر من إبعاد تنظيم داعش عن مناطق واسعة من ريف حلب الشمالي والشمالي الشرقي لحلب حتى بدأ المزارعون بالتحضير للموسم الزراعي القادم، لكنهم فوجئوا بالكميات الهائلة من حقول الألغام التي أعاقت زراعة أراضيهم، الأمر الذي يمكن أن يحول دون استثمار الأراضي الزراعية للسنة الثالثة على التوالي.

التقى فريق الغربال بمحمد طاهر وهو واحد من المزارعين الذين يملكون مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، ولديه بئر ارتوازي يمكنه من زراعة المحاصيل والخضروات التي تدر أرباحاً معقولة، وتشكل داعماً أساسياً في دورة الاقتصاد المحلي، كان محمد محبطاً حيث يقف بين معداته الزراعية التي كانت جاهزة لحراثة الأرض، فمحمد يتخوف من حقول الألغام التي أكد وجودها مقاتلي المعارضة، ذلك أن أراضيه الزراعية كانت على خط تماس بين قوات المعارضة و”داعش”.

يقول محمد لـ”الغربال” إنه “لا يمكنني إرسال أحد لحراثة الأراضي التي تقع بالقرب من حقول الألغام، لأنها مهمة خطرة جداً، ومن الممكن أن يفقد سائق الجرار حياته في أي لحظة إذا ما وقع في حقل للألغام”، ويؤكد أن “المخاطر المترتبة لا تقتصر على الألغام فقط، فهناك بقايا القذائف العنقودية التي خلفتها الغارات الجوية الروسية على المنطقة”.

 

الألغام تسببت بتعطيل الخدمات العامة

يناشد محمد خير، وهو أحد سكان ريف حلب الشمالي، الجهات العسكرية والمحلية في المنطقة منذ أسبوعين لمساعدته في تأمين مدرسة القرية الصغيرة الواقعة إلى الشرق من أعزاز، وباعتباره مدير المدرسة الوحيدة في البلدة التي تم تحريرها من سيطرة تنظيم “داعش” فقد قرر العودة إلى إليها استئناف العمل فيها، لاستقبال عشرات التلاميذ العائدين مع أهاليهم من المخيمات الحدودية.

لا يجد محمد آذاناً صاغية لمناشداته، فمشكلة مدرسة القرية الي يديرها عامة، وتعاني منها معظم المباني الخدمية العامة، الصحية والتعليمية والبلدية في ريف حلب الشمالي والشمالي الشرقي، فهناك العديد من الألغام المخبئة في زوايا هذه المباني وربما تنفجر في أي لحظة، وقد حدث ذلك فعلاً في أكثر من مرة وأودت الانفجارات بحياة مدنيين وأطفال.

ويؤكد محمد في حديثه لـ”الغربال” أنه “اضطر أخيراً إلى استخدام أحد منازل البلدة لاستيعاب الطلاب، إلى أن تتم عملية إزالة الألغام من المدرسة، ويعتقد أن ذلك هو الحل الوحيد كي لا تفوت السنة الدراسية على الأطفال”.

 

إزالة الألغام تتم بوسائل بدائية

يضطر السكان في ريف حلب إلى الإقدام على أكثر الأمور خطورة، وهو انتزاع الألغام المتفجرة بوسائل بدائية طالما كانت سبباً في مقتل العشرات، لقي سامر، وهو مقاتل في صفوف المعارضة حتفه على مشارف بلدة تلالين شمال حلب بينما كان يقوم بتفكيك ألغام أرضية على قارعة الطريق، نجح سامر في تفكيك اللغم الأول، وما أن حاول انتشاله من الأرض بعد إبطال مفعول الصاعق، حتى انفجر لغم آخر كان معلقاً به، وقد تم وضعه تحت اللغم على السطح مباشرة، قتل سامر، ومساعده، وتحولت جثثهما إلى أشلاء نتيجة انفجار اللغمين في وقت واحد.

حال سامر كحال كثيرين من مقاتلي الجيش السوري الحر، في مناطق أعزاز ومارع والراعي وصولاً إلى جرابلس، الذين قتلوا أثناء تمشيط المناطق التي حرروها من سيطرة تنظيم “داعش” أو أثناء تطهير البيوت كي يدخلها أصحابها العائدون من المخيمات.

لا يوجد إلى الآن مؤسسات خاصة لإزالة الألغام، وتفكيكها، أو جمع القنابل، والمتفجرات التي خلفها التنظيم، أو الطائرات الحربية التي كانت تقصف بلا هوادة المنطقة، سواء كانت روسية أو أمريكية أو تابعة للنظام.

فالدفاع المدني يفتقر للأجهزة والمعدات اللازمة، برغم استعداد عناصره لخوض هذه المهمة، فهم مدربين على مثل هذه المهمات، لكنهم يشتكون من افتقارهم للمعدات اللازمة، وقد ناشدوا أكثر من مرة الجهات الداعمة للشعب السوري بحسب قولهم لتزويدهم بمعدات متطورة لإزالة الألغام.

وأمام هذا العجز، اضطرت فصائل المعارضة لتصنيع كاسحة ألغام محلية لتساعدهم في التقدم على حساب تنظيم “داعش”، وقد تم تصنيعها محلياً وتصفيحها بشكل جيد، وهي فعلياً تستخدم لفتح الطرق وتأمينها أمام مقاتلي المعارضة أثناء عمليات التطهير التي يخوضونها ضد تنظيم “داعش” في ريف حلب، لكن كاسحة الألغام المحلية لن تكون بديلاً عن المعدات المتطورة، والتي من الممكن أن تكشف عن الألغام في البيوت والمباني العامة.

كذلك لجأ الكثير من المزارعين إلى وسائل أكثر بداية، وربما غير إنسانية أن صح التعبير، وهي استخدام الماشية “قطعان الأغنام” لكي تؤدي المهمة الانتحارية، حيث يقوم المزارع بإدخال أعداد كبيرة منها في حقله الزراعي، وأثناء مشيها المستمر تنفجر فيها الألغام، ويتم بذلك تأمين الحقل من مخاطر الألغام.

وتصدى لهذه المهمة الكثير من البدو، الذين يمتلكون قطعان كبيرة من الألغام مقابل أجور مادية وتعويضات تدفع لهم مقابل الأغنام النافقة التي تقتل بمجرد أن تدوس على الألغام، ويبدو البدو الرحل، الذين تكدسوا بأعداد كبيرة في الآونة الأخيرة بريف حلب الشمالي والشرقي باعتباره المنطقة الأكثر أمناً في حلب، سعيدين بتأدية هذه المهمة التي تدر عليهم أرباحاً كبيرة، وفي الوقت نفسه تمكنوا أخيراً من تأمين مراعي خصبة لمواشيهم، فمناطق المعارك عادة ما تحتوي على أعشاب كثيفة باعتبارها بقيت بوراً لفترة طويلة.

 

 

 

التعليقات متوقفه