عدم تأهيل المرأة يعطل أكثر من نصف المجتمع – أحمد الصباح

لم يعد خافياً على أحد الحال التي وصلت إليها المرأة السورية بعد خمس سنوات من عمر الثورة، وهي التي ربما فقدت خلالها ابناً أو زوجاً أو أخاً، وربما فقدت عائلتها كاملة ذات مجزرة، حديثنا هنا عن المرأة، والحديث عنها ضرورة ملحة. كونها تمثل نصف المجتمع، وتملك سلطة أدبية على نصفه الآخر بحق الأمومة أو العلاقة الزوجية، ولعلها الأكثر تأثراً من هذه الحرب، والتي أسفرت عن مقتل الآلاف من الرجال في سن الشباب، وتهجير شريحة واسعة منهم. كما تحول الكثير منهم إلى معاقين بحاجة إلى من يعيلهم بحكم الإعاقة أو الإصابة، وفي كل هذه الحالات ازدادت مسؤوليات المرأة، حتى أنها فاقت قدرتها في بعض الأحيان.

تشير الإحصاءات قبل الثورة إلى أن نسبة الإناث تصل إلى 51% من التعداد العام، فماذا عن تلك النسبة بعد أن قُتل من قتل واعتُقل من اعتقل وهاجَر من هاجر، ليس ثمة إحصاءات دقيقة، ولكن النسبة قد تصل إلى أكثر من ستين بالمئة ممن بقي في تلك المناطق من أبنائها.

وللأسف يشير الواقع على الأرض إلى أن تلك غالبية النساء باتت على الهامش في الكثير من شؤون المجتمع بل في أغلب شؤونها الشخصية.

ماذا عن مجتمع يحجر على ثلثي طاقاته البشرية وهو بأمس الحاجة ليد تزرع وتحصد وتعلم وتربي وتعالج وتبني؟

أم محمود امرأة ستينية من قرية الفطيرة في ريف إدلب الجنوبي، وجدت نفسها بين ليلة وضحاها مجبرة على رعاية طفلة رضيعة هي حفيدتها لابنها، الذي غادر ذات يوم إلى إحدى الجبهات وانقطعت أخباره، أما أم الطفلة فكانت قد هربت من زوجها إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام قبل اختفائه بمدة، تقول أم محمود “بحثت عن عمل أعيل به نفسي والطفلة فلم أجد، وكما ترى لم أعد قادرة على العمل ضمن ورشات الزراعة، وها أنا أجوب على قدمي الضعيفتين من مركز صحي إلى آخر ومن بلدة إلى أخرى لتأمين علبة حليب مجانية أطعم بها هذه الطفلة المسكينة”.

أما إلهام وهي أم لثلاثة أطفال ولم تبلغ العشرين عاماً بعد، فقد استشهد زوجها على الجبهات، وأصبحت مهمة إعالة أطفالها على عاتقها، ولأنها لم تتقن أي مهنة بحكم تركها لتعليمها، ووضع أهلها المادي السيئ، وجدت نفسها مضطرة للزواج بعم أولادها الذي تقبلته بصعوبة بالغة، حتى يعيل أطفالها وتكمل تربيتهم.

ولأن العلم سلاح المرأة الذي يعطيها استقلاليتها، كان وضع المتعلمات أفضل قليلاً، فهنّ لم يركنّ لسلطة المنزل والواجبات الزوجية، لأنهن يدركن حاجة المجتمع إليهن وخاصة في الحروب.

رانيا فتاة من منطقة معرة النعمان تعمل في مجال الإعلام، ولكونها امرأة فقد اقتصر نشاطها الإعلامي على الإعلام المطبوع والإلكتروني مستغلة دراستها السابقة وخبرتها المكتسبة في الكتابة الصحفية، تقول رانيا “عادة ما أطرح في تقاريري وتحقيقاتي مواضيع اجتماعية عامة، وربما أطرح أحياناً بخجل مواضيع تخص النساء، فليس هناك ما يشجع على الخوض بهذا الاتجاه بسبب الانطباع العام الذي يسود مجتمعاتنا، فيما يخص المرأة من حيث تضييق هامش حركتها، ووضعها تحت مجهر الرقيب الأقرب، الذي بات يخشى من تعرضه لعقاب من قبل “الحسبة” بصفته ولي أمرهن، ويتحمل مسؤولية ما يصدر عنهن من مخالفات شرعية من وجهة نظر هذا التيار.

تتابع رانيا “طبعاً أملك الكثير من الإمكانيات لأقوم بعمل عدة رجال في مجالي، ولكن الظروف المحيطة فرضت علي أن أقتصر على العمل من وراء حجاب، وكتابة المقالات والتقارير وإرسالها عبر الشبكة العنكبوتية، فأحصل على مردود أساعد من خلاله عائلتي الفقيرة على الاستمرار في الحياة في هذه الظروف الصعبة”.

ساهم الحراك المدني الذي تشتعل جذوته وتخبو بالتناغم مع الوضع العسكري وطبيعة القوات المسيطرة على المنطقة، في منح المرأة دوراً ما، رغم محدوديته، فمنظمات المجتمع المدني وخاصة التي اختارت التنمية الاجتماعية أو التدريب والتعليم أهدافاً لها ساهمت في إعطاء المرأة دوراً ما رغم عدم تكافئه مع طموحاتها، كما تقول أم ياسر وهي إحدى المتطوعات في منظمة تعمل في مجال التنمية الاجتماعية.

تقول أم ياسر “نزحت من مناطق ريف حماة الشمالي على خلفية ملاحقتي الأمنية بسبب نشاطي الثوري في عام الثورة الأول، وبحكم انخراطي في أجواء الثورة كما هي عائلتي؛ لم أستطع الاستسلام لفكرة أنني امرأة وعليّ أن أتفرغ فقط لعملي المنزلي ورعاية أطفالي، وأنا بطبيعة الحال من أسرة سورية محافظة ومتدينة وأعرف حقوقي وواجباتي كامرأة بشكل جيد”.

 تتابع أم ياسر: “إن الأفكار الدخيلة المتشددة التي تسود المجتمع حالياً تمنع الكثير من النساء من القيام بواجباتهن تجاه وطن نرى أننا شريكات لإخوتنا الرجال ثورياً وفكرياً نستطيع أن نفعل الكثير ليس من باب مجاراة الطروحات الثقافية السائدة، بل لأن ديننا الحنيف أعطانا هذه الحقوق وفي تاريخنا صور ناصعة لنساء مبدعات ومنتجات منذ عهد النبي صلى الله عليه إلى يومنا الراهن”.

واجهت أم ياسر الكثير من المعاناة قبل أن تعمل كمتطوعة في فريق مدني وتستمر معاناتها خلال عملها، حيث تضطر إلى اصطحاب ولدها أو الطلب من زوجها مرافقتها عند حاجتها لزيارة منطقة أخرى للقيام بعملها كداعمة نفسية للنساء والأطفال، تقول: “اضطررت لارتداء النقاب رغم عدم قناعتي به، ولكن لتجنب المضايقات التي بتّ أتعرض لها أحياناً، حيث عملت كمديرة لمشروع توعوي خاص بالنساء وكانت الكثير من المراجعات يأتين بصحبة رجالهن الذين كانوا ينتظرون في الخارج، إلا أن ذلك لم يمنع من كوني صرت معروفة في المنطقة بحكم الخدمات التي كنت أقدمها مع فريقي للنساء والأطفال في المنطقة، إلا أن ثقافة المجتمع السائدة حول عمل المرأة والتي عززتها الأفكار المتشددة الوافدة إلينا فرضت علي ارتداء النقاب تجنباً لأي مضايقات محتملة”.

أم ياسر ورانيا وغيرهن الكثير لم يستسلمن للواقع القاسي وما يفرضه من قيود ومضايقات، وحاولن الالتفاف عليه لتحقيق شيء من المكتسبات لهن ولأبناء جنسهنّ عموماً.

زادت السنوات الماضية من تهميش المرأة، سواء بإرادتها وذلك عندما تتنازل عن حقها في التعلم وتطوير مهاراتها، أو في حال خوفها من التعرض للمضايقات والاتهامات حيث فضلت التزام البيت، أو رغماً عنها وذلك بسبب التشدد الذي يضع العراقيل أمام تحركاتها وأفكارها.

التعليقات متوقفه