عن الموت والحياة بمناسبة رحيل حسين العودات – عبدالرحيم خليفة

هل كل الناس يموتون؟ هل كل الناس يبدأون حياتهم في المهد وينتهون في اللحد؟ مامعنى الموت؟ ومامعنى الخلود؟ أسئلة كثيرة، وربما معادة، وتقليدية، طرحت وتطرح، مع رحيل كل صاحب فكر أو أثر، رجل تاريخ، أو أدب، أو سياسة، أو فكر.

فلسفة الموت تأخذ أبعادا كثيرة، دينية، وأخلاقية، وظلت مثار جدل على مر التاريخ، منذ وجد الإنسان على هذه الأرض، وستبقى، وهي في كتب السماء، والعقائد الوضعية، وثقافات الأمم والشعوب، المروية والمكتوبة، وفي العلوم، وماهو حاضر وواقع، أو ميتافيزقي (ماوراء الطبيعة).

لقد فقدت سوريا في الأعوام السابقة الكثير من رجالاتها المخلصين، إلى درجة يصعب، ربما، معها توثيق كل الأسماء، والحالات، وظروف رحيلهم. ولكن في أقل من شهرين، رحل عن دنيانا بعض الأعلام الكبار، والشخصيات المهمة، في مجالات الفن والفكر والسياسة، أعادت طرح تلك الأسئلة البسيطة، والمعقدة.

رحل نذير نبعة، الرسام المبدع والملتزم بقضايا وطنه وأمته، في دمشق، ورحل نبيل المالح، المخرج الفنان، بعيدا عن وطنه، وووري الثرى في دولة الامارات العربية المتحدة، وبعدها غادر المفكر جورج طرابيشي بعد رحلة عطاء ممتدة، وخصبة، في منفاه الاختياري، فرنسا. وكان آخر الراحلين حسين العودات، الذي حظي موته بـ”حفاوة” كبيرة، تليق بالرجل وتاريخه وعطاءه، في دمشق، التي أصر على البقاء فيها بعناد، كعناده في مواجهة الاستبداد وسلطته. القاسم المشترك بين الأربعة إلتزامهم بقضايا الحرية، حرية الأرض والإنسان، كل في مجاله، واختصاصه، ولتتعدى قضايا الوطن الصغير الى قضايا الأمة، فنذير نبعة (توفي في 22 شباط) هو مصمم شعار حركة فتح الفلسطينية، والكثير من ملصقاتها الدعائية، التي انتسب اليها في بداية حياته، وفي ذروة المد التحرري، في النصف الثاني من ستينات القرن المنصرم، وليبرع في ” الدمشقيات”، ويقارب الصوفية في مكامن النفس البشرية، وينهي حياته بمجموعة من اللوحات رسمها بالحبر الصيني، عن “المدن المحروقة”.

أما نبيل المالح الذي ترك حوالي 150 فيلما (توفي في 24 شباط)، ترواحت بين الآفلام الروائية الطويلة والقصيرة، والتسجيلية، شكل بعضها علامات فارقة في تاريخ السينما السورية، لعل أشهرها، السيد التقدمي، الكومبارس، الفهد، رجال في الشمس، بقايا صور .. إلخ، وعرف عنه مقارعته للاستبداد مبكرا، وانضمامه لإعلان دمشق، قبل الثورة، ومشاكسته ومعاندته الدائمة للرقابة والرقيب.

وجورج طرابيشي، المفكر العملاق (توفي في 16 آذار)، فقد ترك خلفه حوالي 200 كتابا، ترواحت بين الفلسفة والفكر، وعلم النفس، والترجمة لفرويد وهيغل وجارودي، ولعل أهم كتبه على الاطلاق “نقد نقد العقل العربي” الذي رد فيه على المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، في خمسة أجزاء، كان آخرها “إسلام القرآن.. إسلام الحديث”، في “معركة” أخذت منه 20 سنة من حياته وجهده.

أما الآخير حسين العودات، فلم تشغله قضايا الفكر والثقافة، عن الثورة والمشاركة بها، بكل ما أعطاه ربه من عافية، وقدرة، حتى آخر أيام حياته، وعن تقديم ما يمكنه لوقف نزيف الدم. لقد إلتقيته لأخر مرة في القاهرة، في مؤتمر القاهرة -1، في شباط / فبراير 2015 كان المرض قد أخذ من صحته ولكن لم ينل من ذهنه وإيمانه بالحرية، وحق الشعب السوري في تقرير مصيره، واختيار نظام حكمه، وهو الذي إشتغل في قضايا “العرب النصارى” و”المرآة العربية في الدين والمجتمع” و “الموت في الديانات الشرقية “، و “الآخر في الثقافة العربية”، إضافة للاشراف على “موسوعة المدن الفلسطينية”.

هل مات هؤلاء فعلاً؟ هل رحلوا دون عودة؟ رحل الكثيرون قبل هؤلاء، وسيلتحق بهم كل من على هذه الأرض، ولكن الأكيد أن هؤلاء ليسوا عابرين بين الكلمات العابرة، فلقد خلفوا وراءهم إرثا يعتد به، و”علما ينتفع به” لن ينقطع، وهكذا هي سيرورة التاريخ وتعاقب الأجيال.

في مجتمع اتسم بالاستبداد والاقصاء يصبح رحيل هؤلاء محزن ومؤلم، ولكنهم بالتأكيد أكثر حظاً من آخرين رحلوا قبل الثورة، لم تعرف إلا قلة من الناس أهميتهم ودورهم، وما قدموه لمجتمعهم ووطنهم، غادروا دون أن يحظوا بما يستحقون من تكريم وعزاء. في تفاصيل وهوامش موت بعض الشخصيات ماهو مؤلم ومفجع أكثر من فاجعة الموت نفسه، خصوصا، أن ماقدموه قد طواه النسيان وغيبته أولويات سلطة قمعية حاربت وناهضت كل صاحب قيمة وشأن، في وطن اختصر بفرد، أحد، صمد، لاينافسه على موقعه ومنزلته الا مجنون أو مختل عقلياً.

برحيل الأربعة طويت صفحة هؤلاء وعطائهم، فقد توقفوا عن الفعل اليومي، فلن نسمع بعد اليوم عن لوحة فنية او معرض فني، في عاصمة ما لنذير نبعة، ولكن بالتأكيد سنرى تأثرا بمدرسته الفنية، على مدى أجيال قادمة، وسيتأكد مع كل فلم سوري دور نبيل المالح كأحد أهم مؤسسي السينما السورية، في تميزها والتزامها. وبالقطع ان هناك العشرات من الباحثين والدارسين سيعودون لكتابات جورج طرابيشي، بالنقد والمتابعة، في مجالات الفكر السياسي وعلم الاجتماع، وقضايا العقل والتنوير والحداثة، يرون ما يرون فيها، ولكن حتما هي اضافات مهمة في قضايا الفكر الانساني. أما حسين العودات فسيكون له من كل هذا نصيب، وإضافة، كونه احد المشتغليين بالسياسة وناله ما ناله منها، وربما توقيف راتبه التقاعدي وهو مريض يحتاجه في العلاج والدواء، واعلانه رفض اي مساعدة مالية من أي جهة، تختصر حكاية مثقف عضوي خاض معاركه بايمان وعناد، وانسجام بين الفكر والممارسة.

هل مات هؤلاء؟ هل مات الياس مرقص وجمال الأتاسي، هل مات لؤي كيالي، ومصطفى العقاد، ومحمد الماغوط وممدوح عدوان، وسامي الجندي وأديب النحوي. هل مات كل هؤلاء؟ هل ووروا الثرى وانطوت سيرتهم العطرة وأسدل الستار عليهم. بحق وموضوعية وأمانة هؤلاء لم يموتوا، ولن يموتوا، فهم في سفر الخلود وذاكرة شعب حي يتلمس طريق خلاصه، وانعتاقه. بين رحلة الحياة والموت، وهي حقيقة راسخة، يخط البشر بأيديهم وعملهم ما يحفظ أسماءهم في لوح محفوظ. رحل هؤلاء … نعم، لكن لا أظن أنهم ماتوا.

التعليقات متوقفه