احفر قبري يا أخي وأرحني! – خليفة الخضر

في السحور الثالث عشر لأول رمضان أغيب فيه عن أهلي فُتح باب المهجع، عادة لا يُفتح هذا الباب إلا لبدء حفلة تعذيب جديدة، أو لسحب أخ لنا ليلاقي مصيره ذبحاً بسكين السجان، أو لاستقبال الطعام، وتلك هي الحالة الطبيعية الوحيدة.

جمدت أسناننا التي كانت تحاول عبثاً لوك لقيمات الخبز المعدودة عندما أطلّ السجان الذي لم يتجاوز 15 عاماً برأسه، وصرخ قائلاً: الكل يوقف وراسه على الحيط! وأردف قائلاً بعد تنفيذنا الأمر: كل واحد منتهي التحقيق معه يجي لعندي.

يبلغ عدد الذين انتهى التحقيق معهم “الباصمين” 37 سجيناً من أصل 98 سجيناً يغص بهم مهجع المرتدين!

اقتربنا من السجان الطفل فقال لنا: صلوا الصبح ثم اقرعوا الباب لآتيكم!

كانت الدقائق القليلة التي حصلنا عليها لأداء صلاة الفجر كفيلة بأن يحمّل كل منا شخصاً آخر ممن لم ينتهي التحقيق معه وصيته، ويؤكد عليه بضرورة إيصال السلامات للأهل وطلب العفو والصفح وسداد الديون، إذ لابد أن الباب الذي سيفتح بعد صلاة الفجر؛ سيوصلنا إلى مقتلنا لاشك!

بعد أن قرعنا الباب عاد السجان الطفل ليصرخ مجدداً: ضبوا أغراضكم، وكل واحد يطمّش “يعصب عيون” الثاني!

همس أخي حميد: هو الموت يا أخي لا شك!

خرجنا من السجن حيث تم توزيعنا على مجموعات، حُشِرت كل مجموعة في سيارة فان وانطلقنا. كانت المرة الأولى التي أتنفس فيها الهواء خارج السجن منذ سبعة أشهر، ولعلها الأخيرة، إذ لابد أنه سيتم توزيعنا على الساحات أو الدوارات وتقاطعات الطرق ليتم تنفيذ القصاص بنا، أو ربما نكون طرائد صيد لمجموعة عسكرية تخرجت لتوها من أحد المعسكرات.

بحسب الطريق التي سلكناها والتعرجات التي مررنا بها قال أبو نورس وهو مقاتل في لواء التوحيد رفض قتال المسلمين ولكن المسلمين رفضوا توبته المشكوك فيها: إننا نتحرك باتجاه قرى كويرس، وكانت الوجهة بالفعل إلى الجبهة المحيطة بمطار كويرس بريف حلب الشرقي.

أنزلونا من السيارات، وقطعوا الأحزمة التي قيّدوا بها أيدينا، وأزالوا العصابات عن أعيننا، ووقف أبو الحارث المصري خطيباً بنا وقال: الحمد لله والصلاة والسلام على من بُعث بالسيف رحمةً للعالمين؛ أما بعد: الكل يعلم أن الأصل فيكم الردة يا جرذان الجيش الحر! يا جرذان زهران علوش وحسان عبود! ونحن الأن بصدد عملية عظمى ضد الكفار النصيرية وما أتينا بكم للاستجمام، ستعملون على حفر أنفاق تحت الأرض وكل من يتقاعس عن العمل سيكون مصيره؛ وأخذ يلوح بحربته على رقبته كناية عن الذبح!

ثم تلا علينا القرارات التي علينا الإلتزام بها أثناء العمل:

– الدوام من بعد السحور حتى صلاة المغرب.

– وجبتان يومياً؛ فطور وسحور.

– محدش يتكلم مع حد يا كدعان، فاهم ياود أنت وهوه!

تم وضعنا في مزرعة قريبة من المطار تعود ملكيتها لمسؤول في النظام مسيحي على الأغلب، إذا كان فيها صلبان كُسِرت حديثاً، إلى جانب صور لضباط في الجيش ونساء عاريات وبقايا زجاجات فودكا!

 

كان العمل الشاق كفيلاً بإنهاك أجسادنا المنهكة أصلاً بفعل سبعة أشهر من الاعتقال، وكانت مهمتنا تقتضي حفر نفق سيتم تفجيره في أوّل أيام عيد الفطر، ولكن الدعوي أبا يوسف الألماني الذي دخل الإسلام منذ سنة أخبرنا لاحقاً أن العملية ستأخد وقتاً أطول لأن الصحوات المرتدين ساهموا في تأخير هذا النصر بسبب معركة كوباني!

كانت مهمتي أنا وأخي حميد نقل التراب من داخل النفق إلى الخارج حيث يتم تجميعه في عربة يفرغها جرار زراعي كلما امتلأت.

كان النفق على عمق متر ونصف تحت سطح الأرض، ولا يزيد قطره عن المتر، كنا نعمل بظهور محنية طوال الوقت، تحرقنا الحرارة المنبعثة من المصباح الكهربائي، وكثيراً ما كنا نتزحلق من الرطوبة العالية في الداخل وغزارة العرق المتصبب منا، أما ثيابنا فكانت كلها بلون واحد؛ البني الغامق! وأكثر من نصفنا لم يعد يحتمل حرارة الشمس وشدة الحر داخل النفق فتوقف عن الصيام سراً.

 

في استراحة صلاة العصر من اليوم الخامس والتي حُدِّدت لنا بعشر دقائق طلبت من أخي الصغير حميد أن يفرك لي ظهري المتخشب من كثرة الإنحناء، ثم فركه مجدداً بعد الإفطار، فجأة هجم علينا أبو الحارث المصري الذي كان يراقبنا من غرفته، كان يصرخ ويشتم وكأن القيامة قد قامت، قال: ما تسيب إيدك عنه يا شاذ يا منحرف.. امسكوهم امسكوهم!

ثم أردف قائلاً وسط ذهولنا جميعاً: بتعمل إيه أنت واياه يا ود، عمال تلوطو في بعض يا مرتدين!

وجر أخي حميداً من قميصه قائلاً: تعال أنت يا كتكوت! وساقه بضرب متواصل حتى أدخله في إحدى غرف المزرعة، وهناك قال له أخي: شيخي هذا أخوي عم أفركله ظهره.

فقال: إيـــــــــــــــه، تفركله ظهره، دا العب دا مش عليّ، أنا ابن شوارع الإسكندرية وعارف كل حاجه!

وعبثاً أقسم أخي حميد الأيمان المغلظة على أنه كان يمسّج لي ظهري المتخشب من الحفر ونقل التراب.

ربط أبو الحارث يد أخي حميداً اليمنى مع رجله اليسرى بسيخ حديدي، ورماه في تحت الشمس، وبدأ بتعذيبه بشكل هستيري ولم يتوقف حتى اعترف أخي أننا كنا نداعب بعضناً وأننا (ننكح بعضنا) منذ الطفولة!

وفوق ذلك كله طلب من أخي أن يشرح له (بالزبط وبالتفصيل من أول حاجة للحمام وكيف كنت أنكحه وهو صغير) مرافقاً ذلك كله بإشارات جنسية بيديه!

أما أنا فتم تحويلي إلى سجن صغير هو غرفة أبي الحارث الخاصة, وقد ألبسني باروكة شعر مستعار كانت في المزرعة وراح يضربني بخرطوم أخضر كان معه.

لم أكن حينها أعرف أن أخي اعترف بكل هذه الفظائع تحت التعذيب، وسرعان ما تمّ نقلي إلى بهو المزرعة حيث حاول أبو الحارث إغراقي بالماء لإرغامي على الاعتراف كما اعترف أخي!

 

عذبني أبو الحارث حتى فقدت الوعي، ثمّ سجل لي ولأخي مقطع فيديو يسرد فيه أخي اعترافاته وأكتفي أنا بالإيماء موافقاً برأسي، ثم أخذنا إلى مكان بعيد عن المزرعة وطلب من أخي أن يحفر لي قبراً ليدفنني فيه!

كنت أنظر إلى أخي وأنا فاقد القدرة تماماً على الحركة، تردد حميد ونظر إلي فقلت له: احفر قبري يا أخي وأرحني ولا تخف!

بعد أن أنهى أخي عملية الحفر، ضحك أبو الحارث وضربنا أنا وأخي وهو يصفنا -معشر السوريين- بالحمقى بالجبناء!

 

يقول المثل إن خليت خربت، وفي تلك الفترة تدخل شاب جزراوي (سعودي) وطلب من أبي الحارث أن يتابع التحقيق معنا في سجن مدينة الباب، ولكنه رفض وقال: بل أنا من سأحكمهم وأدفنهم وآخذ أجرهم! ولكن الجزراوي هدده فتم نقلنا أنا وأخي إلى السجن في الباب بعد إعطاء اعترافاتنا للأمنيين هناك، وبصمنا عليها تأكيداً على أننا من قوم لوط!

وبعد مدة عفا عنا الوالي كما أخبرنا أحد الأمنيين!

لاحقاً علمت أن أبا الحارث قُتِل في العراق عن طريق الخطأ بحشوة أر بي جي أطلقها مقاتل مصري ولم تترك من أبي الحارث أثراً!

(قصة حقيقة حدثت مع أحد سجناء تنظيم الدولة الإسلامية في رمضان 2014 مع تحريف في أسماء السجناء)

التعليقات متوقفه