الطفولة والاستبداد في سوريا البعث وصراع إلاّ ما أو – أحمد اليوسف – خاص الغربال

الطفولة والاستبداد في سوريا البعث وصراع إلاّ ما أو

أحمد اليوسف

أحمد اليوسف – خاص الغربال

ليست الطفولة نقيضاً للرشد كما قد يظن البعض. ولا هي نقص للنضج لطالما ليس النضج نقصاً للطفولة. أنا لم أعش في حياتي الطفولة نقصاً بل فيضاً من الفضول والطاقة والخيال. فليست الطفولة سوى الفيض. واستثناء كانت طفولتي تماماً ككل البشر. ولي في ذاكرتي مخزون من الأمثلة الحية من غنى واقعي المعاش.

ففي ظهيرة صيفية وعلى سطح بيت جدي مصطفى السليم كنا أنا وابن خالي نعيش فيض حبنا للعب. فرأينا جدي من فتحة من على سطح بيته الطيني، مستلقيا على ظهره. لم يترك من لباسه إلا ما خف منه. تأكدنا أنه قد أغمض عينيه فاتحاً فمه قبل أن ينزل كل منا سرواله ليمطره بوابل من البول! لم نكن نريد له الأذية، كنا فقط نريد أن نلعب. لجدي صوت مرعب جعلنا نطير هرباً. وفي جلسته التحقيقية لنا وسؤاله عن طبيعة ما ألقينا عليه لم يكن لدينا من إجابة إلى أن قدّم هو خيارات لنا. أكان شخاخاً؟ فهززنا رؤوسنا بالنفي. أكان ماء؟ فهززنا رؤوسنا بالإيجاب. وأدرك هو من هزات رؤوسنا المرعوبة الباحثة عن خلاص وحسب بأنه كان بولاً فقال ضاحكاً: لا تعيدوها مرة أخرى حتى لو كان ماء. وحين سألت جدي الآخر، الشامت بما حصل لجدي مصطفى، عن قول أمي بأنني سأذهب إلى النار عقاباً لفعلتي هذه أجاب: لا تصدق الجدبة أمك، الاطفال لا يذهبون إلى النار.

Print

فللأطفال رخصة ولدت معهم ضمنتها لهم كل الشرائع والأديان. والطفولة أحيانا نهج وثقافة واعتقاد وطبيعة تنبري الاخلاق للدفاع عنها. فيروى عن المسيح قوله بالأطفال: لهؤلاء ملكوت الله. كما يتناقل إرثنا الديني قول نبي الإسلام رسول الرشد: اتقوا الله بالضعيفين المرأة والطفل. وللطفولة خصوصية في ثقافتنا تصيغ نفسها ضمن ثناءات مجازية: الأطفال ملائكة الجنة. وأحيانا تأخذ مجازات دنيوية ملؤها المداعبة كأن يقال: في طيزه مئة عفريت. والطفولة في فيضها اللعبي قد تغدو ثقافة تربوية تحررية خلاقة كتلك التي تحدث عنها شلر في تربيته الجمالية. واللعب روح الطفولة. ولو ملك الاطفال دولة لنصوا فقرة واحدة تختزل مبادئ دستورهم الطفولي مفادها: كل يلعب على هواه.

وثقافة اللعب هذه هي ثقافة تحررية لا تحتملها أي سلطة استبدادية. وخير مثال على ذلك: سلطة ما فتئت تحارب الطفولة هي سلطة البعث. فلم تكتف هذه السلطة عبر تاريخها التدجيني المجيد بتفريغ اللعب من مضامينه بل جعلت من الأطفال أنفسهم موضوع ابتزاز. فمن يحتج على قمع نظامه مصيره ومصير أطفاله الموت. وإذا كان جدي متسامحاً مع من بال عليه فنظام البعث المتخوم بالرجولية النضالية لا يغفر خطأ من هذا القبيل. لأطفال درعا سبق بانتهاك المحظور بأن بالوا على النظام غناء فأنشدوا مطالبين بإسقاطه من عليائه فاقتلع لهم أظافرهم. ولم يشفع لهم قولهم: لم نكن نقصد ما نقول، كنا فقط نلعب! وحين بالغ الأطفال في لعبهم كما فعل حمزة الخطيب قطع له النظام، في عصاب سادي، عضوه الذكري.

لعب الأطفال واستبداد النظام ضدان لا يلتقيان ويحتم هذا التضاد منا موقفاً أخلاقياً مفاده: إما مع الطفولة وإما مع نظام يصادر عليها. إن الطفولة براءة، وقتل الطفل ليس بمثابة قتل إنسان بريء بل بمثابة قتل البراءة ذاتها. من هنا لا يلام فقط كل من يساند نظاماً يمعن قتلاً بالطفولة إلى حد استخدام الكيماوي ضدها بل اللوم هو على كل من يسكت عنه. إن السكوت عن قتل الطفولة جريمة.

التعليقات متوقفه