تجارة الآثار: مصائب قوم عند قوم فوائد – خالد عبد الرحمن
يعتبر التنقيب عن الآثار والإتجار بها مورداً هاماً لكل الأطراف أفراداً وجماعات في ظل الحرب الدائرة في سورية منذ ست سنوات في ظل غياب أي رقابة، وتهدد المعارك التي تشهدها سوريا آثارها التاريخية الثمينة التي تتعرض للدمار وأيضاً لعمليات السرقة والنهب المنظمة التي تتزايد مع استمرار المعارك في مناطق مختلفة من البلاد.
يحدث ذلك في ظل الحروب والنزاعات، فمع بداية الحرب العالمية الثانية واحتلال بولندا من قبل القوات النازية في سبتمبر 1939, باشرت القوات النازية بالقضاء على الثقافة الموجودة في البلد المُحتل, حيث نُهبت آلاف التحف الفنية وتم تدمير 25 متحف, وتقدر التكلفة الإجمالية للسرقة النازية الألمانية بـ 43٪ من التراث الثقافي البولندي أي ما يعادل تقريباً 20 مليار دولار, وفق خطة مدروسة اعدتها الحكومة الألمانية آنذاك لسحب اكبر قدر ممكن من التاريخ البولندي وزرع الثقافة النازية.
الأكاديمي عبد القادر المحمد أحد العاملين في منظمة حماية التراث السوري الثقافي قال لـلغربال: “يوجد في محافظة إدلب وحدها /400/ موقع أثري منها /200/ تل أثري تمتد من القرن الخامس قبل الميلاد حتى العصور الإسلامية والتي تشكل ثلث آثار سوريا، عدا عن ريف حماة الشمالي والشرقي الغني بالمواقع الأثرية التي تزداد عمقاً حتى العصر الحجري على ضفاف العاصي”.
وأضاف المحمد: “يتم التنقيب إما بشكل فردي عن طريق أشخاص مهتمين من أبناء المنطقة المحليين وبشكل عشوائي, وفي الغالب يتم عن طريق مجموعات منظمة تعمل بدراية وتحت إشراف الفصائل المسيطرة وبالاستعانة بخبراء دوليين يدخلون المناطق المستهدفة تحت حماية تلك الفصائل”.
وانتشرت بشكل كبير أجهزة سبر لمعرفة أماكن تواجد الآثار في المناطق المحررة (تستخدم عادة في الكشف عن الألغام )، وعن ذلك أردف المحمد أن “الخبرات الفردية لدى الكثير من المنقبين عن الآثار تطورت بحكم العمل الدؤوب في مجال التنقيب طوال سنوات الحرب، وبات لدى هؤلاء معرفة جيدة بالإشارات والرموز وكيفية التنقيب بشكل حرفي للمحافظة على القيمة الأثرية وبالتالي المادية للقطع المستخرجة, كما تطورت خبرات تجار ومهربي الآثار الموجودين سابقاً حيث باتوا على دراية بالمواقع الأثرية ومرجعية كل موقع تاريخياً، حيث يستعينون بخبراء من دول معينة حسب الموقع المستهدف، وكذلك التوجه للتجار المتوقع اهتمامهم بالقطع المستخرجة للحصول على أعلى سعر ممكن”.
ويتم التهريب عادة من سوريا عن طريق تركيا تهريباً ثم إلى أوربا عن طريق اليونان وفي بعض الأحيان قامت السلطات التركية بإحباط عمليات تهريب وتحفظت على القطع المهربة، وأكثر الأسواق رواجاً هي ألمانيا وهولندا حيث تباع القطع لأشخاص أغنياء من المهتمين باقتناء تلك القطع . وفي الحقيقة، لطالما كانت الأسواق الألمانية الأكثر رواجا للآثار المهربة، فبين عامي 1941 و1944، تم ترحيل أكثر من 20 مستوعباً يحتوي على أعمال فنية من باريس الى ألمانيا تمثل في مجموعها ما يعادل 138 حافلة قطار، مليئة بـ4170 خزنة في عملية تهريب هي الأضخم، وواجهت أعمال النهب مقاومة من مدير المتاحف الوطنية واللوفر وضمن المتاح في مواجهة أوامر فيشي ورجال الرايخ في روزنبرغ. وعلى هذا المنوال استمرت العمليات في كل ارض وطأتها قدم الألمان, لتكون حصيلة عهد هتلر، سرقة حوالى خمسة ملايين عمل فني من أنحاء أوروبا، وتعد هذه هي السرقة الكبرى تاريخيا ومعترف بها.
وأكد عضو المنظمة التراثية أن “بالنسبة لتركيا فلدينا معلومات أن جميع المخطوطات العثمانية الموجودة في متاحف حلب تم نقلها إلى داخل الأراضي التركية وبحماية الحكومة التركية، ولا تأكيد أو نفي بخصوص نقل مئذنة الجامع الكبير في حلب (الأثرية) إلى الأراضي التركية، كما تحدثت بعض الروايات، في حين ذكر ناشطون مهتمون في وقت سابق أن المئذنة تم دفنها بعناية في مكان ما داخل حلب لحمايتها من السرقة أو التدمير نتيجة القصف والمعارك التي استمرت فترات طويلة في محيط المسجد”.
وتابع المحمد حديثه أن المنظمة تمتلك معلومات أن “مافيات تتبع للنظام قامت في أوقات سابقة بسحب القطع ذات القيمة العالية من متاحف حلب وإدلب ووضع قطع مزورة مكانها، وكذلك في متحف دمشق وبعض تلك القطع تم تهريبه إلى الخارج عن طريق لبنان، منوهاُ إلى أن عمليات التنقيب العشوائي والانتهاكات بحق الآثار تقوم بشكل كبير على التوازي في المناطق التي يسيطر عليها النظام من خلال الميليشيات المتعددة التي تساعد قوات النظام في حربها على قوات المعارضة، وخط تهريب مناطق النظام يتم عن طريق لبنان وصولاً إلى أوروبا”.
وشدد عبد القادر على أن عمليات التزوير باتت أصعب بكثير بحكم الخبرة العالية التي بات يمتلكها الأفراد، عدا عن التجار والمجموعات العاملة بالتنقيب, وساهم في التخفيف من مشكلة التزوير تخمة سوق الآثار حيث أن الكم الهائل من القطع المستخرجة جعلت المهتمين معنيون بنوعية معينة وحقب تاريخية معينة تتميز برسوم فريدة أو ميزات خاصة لتكون مرغوبة في السوق السوداء.
أما عن المساعي للتخفيف من تجارة الآثار فيقول المحمد: “في الربع الأول من هذا العام تم تزويد فرقاً من المهتمين بحماية الآثار والحفاظ على التراث بمادة تدعى سمارت ووتر وهو حبر سري لا رائحة له ولا لون ويتم كشفه بالأشعة فوق البنفسجية فقط، حيث يتم وسم القطع الأثرية به عن طريق طلائها، حيث سيتيح ذلك للمختصين معرفة متى وأين تم وضع تلك المادة على القطع وبذلك سيكشف مصدرها بسهولة، ويستهدف هذا العمل القطع الأثرية النقدية والفسيفساء والألواح المسمارية والأواني الزجاجية، وهذا النوع من التوثيق أصبح يستخدم حديثاً في المناطق المحررة فقط”
ووفقاً لليونيسكو، فإن تهريب التحف الأثرية القيمة خارج منطقة الشرق الأوسط من أكبر الصناعات العالمية غير المشروعة إلى جانب الأسلحة والمخدرات والإتجار بالبشر, علاوة على ذلك، وجدت كمية كبيرة لكن غير معروفة، من التحف الأثرية في أوروبا والولايات المتحدة، حيث حاول بعض الوسطاء بيعها إلى هواة جمع التحف.
وأخذ ناشطون -هواة ومحترفون في مجال التوثيق- على عاتقهم مسؤولية توثيق المواقع الأثرية وتقييم وضعها وما آلت إليه وما تعرضت له من تخريب مقصود أو غير مقصود بفعل تعرضها للقصف أو السرقة أو استخدامها لأغراض أُخرى كالسكن .
قصي خطيب أحد أولئك الناشطين تحدث لـلغربال: “عملت مع الجمعية السورية لحماية الآثار مدة 7 أشهر، وثقت فيها 132 موقع أثري في محافظة إدلب، ولم أتمكن من توثيق جميع المواقع بسبب الوضع الأمني الذي تفرضه بعض الفصائل، كما تعرضت بعض المواقع للتدمير الكلي وبعضها بشكل جزئي وأغلب المواقع تعرضت للنهب والحفريات والتنقيب العشوائي”.
ويروي خطيب كيف كان يتم تكسير حجارة القصور في موقع البارة وبيعها للبناء، وكيف تم تدمير بعض المواقع الأثرية بشكل متعمد أثناء التنقيب، أو بفعل قصف الطيران، مؤكداً أنه التقى الكثير من تجار الآثار والذين تحدثوا أن لهم اسواق تجارة في قلعة المضيق بريف حماة وبلدة تلمنس بريف المعرة الشرقي، وأنهم يقومون بتهريب القطع الأثرية إلى مناطق النظام وإلى أوروبا عن طريق مهربين سوريين موجودين في تركيا.
تتم عمليات التنقيب العشوائي والاستحواذ على اللقى الأثرية في مناطق ريف حماة من كل الأطراف التي تتناوب السيطرة على تلك المناطق إلا أن موجودات متحف أفاميا الأثري تمت العناية بها والتحفظ عليها بشكل جيد، بل تم توثيق موجودات المتحف المعروضة والمخزنة في المستودعات على السواء من قبل فرق متطوعين من الشباب السوريين المختصين.
الناشط أبو محمد المهتم في مجال الآثار والتراث والذي رافق العديد من بعثات التنقيب عنها في أرياف حماة تحدث للغربال: “المشكلة في ريف حماة تكمن في التلال الأثرية المنتشرة بشكل كبير في ريف حماة الشمالي والشمالي الغربي والتي يتمسك النظام بالسيطرة عليها بحكم ارتفاعها نسبياً عن القرى التي تجاورها ما يمكنه من السيطرة النارية عليها، وخلال وجود القوات العسكرية في تلك التلال تقوم بالحفر والردم لرفع المتاريس أو الخنادق بما يتناسب مع حاجتها العسكرية دون الاهتمام للقيمة الأثرية”.
وذكر أبو محمد مثالاُ قام بمعاينته بداية عام 2014 حيث يقول “قمت بزيارة تل الناصرية بعد تحريره من قوات الأسد، ولاحظت أن معالمه قد تغيرت كثيراً عما كنت أعرفها عنه خلال زياراتي المتكررة مع البعثة الفرنسية برئاسة دومينيك خلال الأعوام بين 2008-2010 حيث كان يتم التنقيب بعناية تامة وأدوات دقيقة لبقع أسفل وأعلى التل لها رموز بالأحرف الإنكليزية وضعها رئيس البعثة الأثرية، بعضها يعود إلى العصر الحديدي وأخرى للعصر البرونزي وغيرها بيزنطي أو روماني أو إسلامي مملوكي”.
وأضاف أبو محمد: “كل تلك النقاط كانت تغطى بعوازل من مادة النايلون للحفاظ عليها, ولكن خلال زيارتي للتل لم أر سوى الخنادق والسواتر الترابية، حيث لم يعد للنقاط وجود بسبب ردمها أو حفرها أو تساقط عشرات القذائف عليها, حيث كانت تستخدم الآليات الثقيلة في تلك الأعمال وللتنقيب عن الآثار، فقد لاحظت وجود أعمال حفر بالتركسات في أماكن أسفل التل لا مبرر للقيام بها عسكرياً”.
ولا يقتصر التراث الثقافي على معالم وصروح وآثار فحسب، بل هو أيضاً كل ما يؤْثَر عن أمة من تعبير غير مادي، من فلكلور وأغانٍ وموسيقى شعبية وحكايات ومعارف تقليدية تتوارثها الأمة عبر أجيال وعصور، وكذلك تلك الصروح المعمارية المتعددة والمختلفة، وتلك البقايا المادية من أوانٍ، وحلي، وملابس، ووثائق مختلفة، وكتابات جدارية وورقية وغيرها؛ كلها تعبر عن روحها، ونبض حياتها وثقافتها.
التعليقات متوقفه