آثار إدلب ضحية تفارق التاريخ ــ حسين العبدلله
تحتفظ محافظة إدلب بثلث آثار سورية تقريباً، حيث يوجد فيها العديد من المواقع الأثرية المهمة والتي تعود إلى الألف الخامس قبل الميلاد، ثم الحقب المتعاقبة عبر تاريخ الحضارات في المنطقة التي تعرف اليوم بمنطقة الشرق الأوسط؛ الحثية والآرامية والآشورية واليونانية ثم الرومانية والبيزنطية وصولاً إلى مراحل الحكم الإسلامي بعصوره المختلفة من أموية وعباسية وما تلاها من حقب وعصور.
تضم محافظة إدلب ما يقارب 400 موقعاً أثرياً تسمى بالمدن المنسية بسبب الإهمال المتعمّد والممنهج لتلك المنطقة من قبل النظام السوري خلال فترة حكمه، ومن أشهر تلك المواقع مدينة إيبلا التي تم العمل في التنقيب عنها من قبل البعثة الإيطالية عام 1964 وقد استمرت تلك الأعمال عشر سنوات.
كما تضم مدناً أثرية أخرى كشنشراح والبارة وكنيسة قلب لوزة وغيرها من المواقع الكثيرة والمنتشرة في أرجاء المحافظة عدا التلال الأثرية، حيث يوجد، كما أكد باحثون في مجال الآثار، نحو 200 تل أثري في المحافظة لم يعمل النظام السوري على التنقيب فيها أو اكتشافها.
وفي ظل الحرب المستعرة في سوريا بين قوات النظام وقوات المعارضة كان لآثار محافظة إدلب نصيب وافر من الأضرار الناتجة عن عدة أسباب ترتبط بمجملها بالحرب.
قصف ممنهج ومدروس دمرّ الآثار
تتعمد قوات النظام متمثلةً بالطيران الحربي والمدفعية استهداف المواقع الأثرية بشكل متكرر وممنهج ومدروس منذ انطلاق العمليات العسكرية، حيث تشن الطائرات الحربية عن طريق الصواريخ الموجهة أو الطائرات المروحية بالبراميل المتفجرة التي تلقى من الطائرة عشوائياً هجمات، أدت إلى تدمير العديد من تلك المواقع وتشويهها والبعض منها سُوّي بالأرض.
وفي الفترة الأخيرة منذ عام وشهرين دخلت الطائرات الروسية على خط استهداف المواقع الأثرية مع انطلاق عملياتها الجوية في سوريا.
يقول تميم الموسى من قرية حاس القريبة على موقع آثار شنشراح أنه “عندما كانت قوات النظام متواجدة في وادي الضيف والحامدية كانت تقصف بالمدفعية الثقيلة والصواريخ آثار شنشراح وبشكل متكرر. وأثناء الهجوم على مكان تواجد تلك القوات من قبل الثوار ونزوح بعض أهالي المنطقة واستقرارهم في الموقع الأثري عمدت طائرات النظام لاستهداف النازحين بالبراميل والصواريخ المتفجرة، مما أدى إلى نزوحهم عنها من جديد، ولكن ذلك لم يغيّر في الأمر شيئاً حيث استمرت طائرات الأسد والطائرات الروسية باستهدافها عمداً وبدون سبب بين الفينة والأخرى وبغارات متكررة في اليوم أحياناً”.
ويضيف محمد المصطفى ابن بلدة كفروما قائلاً “لقد مسحت قوات النظام المتواجدة في وادي الضيف والحامدية موقع قصر حناك المجاور لكفروما من الوجود تماماً بفعل القصف المدفعي المستمر الذي تعمّد تدمير الموقع”.
التنقيب العشوائي وتجار الآثار لهم دور
في ظل الفلتان الأمني التي تعيشه المناطق المحررة بشكل عام وإدلب وريفها بشكل خاص، انتشرت ظاهرة التنقيب العشوائي عن الآثار في المواقع الأثرية أو حدائق البيوت الواقعة في مناطق أثرية من قبل السكان المحليين أو بعض الفصائل العسكرية التابعة لقوات المعارضة وبدفع من تجار الآثار.
يقول سمير وهو أحد المهتمين بالآثار من قرية البارة الواقعة ضمن أغنى المناطق السورية بالآثار، والتي يحيط بها من كل الاتجاهات مواقع أثرية مهمة كربيعة وسرجيلا وبشلا وبترسا، إنه “بعد الفلتان الأمني في المنطقة وغياب الجهات المشرفة على الآثار انتشرت ظاهرة التنقيب العشوائي في المنطقة عموماً وشهدت انتشارَ تجار الآثار المرتبطين بتجار في الخارج تشتري منهم ما يجدونه خلال عمليات التنقيب كالتماثيل الصغيرة واللُّقى الأثرية من ذهب أو منحوتات أثرية أو جرار فخارية وما إلى هنالك من مكتشفات يتم بيعها بالدولار وبأسعار زهيدة حيث يتم تهريبها جميعاً عن طريق التاجر إلى الخارج لكي تُباع في الأسواق السوداء بأسعار عالية ومرتفعة”.
أما أحمد ابن بلدة حزارين فيتحدث باسهاب عن موقع “تل حزارين” الأثري الذي يعود إلى العهد الآرامي والذي بات اليوم أشبه بشكل خلية النحل لكثرة ما حفر فيه من حفر تنقيب عشوائي دمرت الموقع وهويته التاريخية والأثرية.
متاحف إدلب منهوبة
يعتبر متحف إدلب من أهم المتاحف في سورية والعالم وذلك لطبيعة اللقى والمكتشفات الأثرية الموجودة فيه من منحوتات أو أوانٍ فخارية وزجاجية وتماثيل إلى جانب أرشيف مملكة إيبلا الذي يضم آلاف الرقيمات الطينية المتكشفة فيها، وقد عمد النظام إلى تفريغه وتهريب كل المكتشفات ذات الأهمية والإبقاء على القليل من المحتويات البسيطة وغير المهمة قبيل خروجه من مدينة إدلب، وسيطرة قوات المعارضة عليها. ثم عمد إلى قصفه مرات عديدة ومتكررة لتغطية جريمته في نهب المتحف من قبل ضباط رفيعي المستوى كانوا يستلمون زمام الأمور في المدينة أثناء تواجد قوات النظام.
يقول سعد (اسم مستعار) وهو أحد العاملين في المتحف سابقاً إنه “في الفترة الأخيرة وأثناء سيطرة قوات الأسد على المدينة كان المتحف الوطني في إدلب صيداً ثميناً بالنسبة للضباط والعناصر الفاعلين من قوات النظام”. ويتابع “كنا نشاهد بعض الحافلات العسكرية المغطاة بشوادر تقف أمام المتحف ويقوم بعض العناصر والأفراد التابعين لقوات الأسد بتحميل بعض الأشياء ضمن كراتين ووضعها في السيارات دون أن يسمح لنا بالاقتراب أو حتى الوقوف في المنطقة ثم علمنا فيما بعد بقيام النظام بسرقة المحتويات المهمة من المتحف”.
متحف آخر نال نصيبة من التخريب ولا يقل أهمية عن متحف إدلب ولعله أهم، هو متحف معرة النعمان وهو أحد أهم متاحف الفسيفساء في العالم، وقد تعرض المتحف إلى قصف متكرر بالبراميل المتفجرة دمر قسماً من مبناه التاريخي وشوه الكثير من لوحاته التي لا تقدر بثمن.
إنقاذ ما بقي من الآثار
ما نجا من القصف أو التهريب أو التجارة أو السرقة هو القليل من آثار المحافظة بانتظار تحمل المسؤولية من قبل قوات المعارضة التي تسيطر عليها بالتعاون مع دول الجوار التي لا تلاحق عمليات التهريب تلك بشكل جاد، حيث أصبح من الضروري سنّ قوانين وفرض عقوبات على كل من يثبت تورطه في عمليات تنقيب عشوائية أو تهريب لأية قطعة أثرية، كون دول الجوار الجهة الوحيدة القادرة على وضع حد لذلك النزيف التاريخي والضياع الممنهج لهوية المحافظة الأثرية.
التعليقات متوقفه